منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011 وفيالق الشعب المصري لا تجد مكاناً ترتاده إلاّ الميادين الفسيحة في المدن المصرية مترامية الأطراف، ومن الميادين ينطلق الخارجون على القانون ويتجهون نحو قضبان القطارات وينتشرون في الشوارع الفسيحة ليمنعوا سيولة المواصلات، كما تتجه مجموعات أخرى إلى تعطيل مكائن العمل في المؤسسات الحكومية والمصانع حتى بلغوا مجلس الوزراء، ومنعوا المجلس من الانعقاد لتسيير أمور البلاد والعباد.
وللأسف الشديد تمارس هذه الحشود من الشعب المصري هذه الأعمال المسيئة باسم حق الشعب في التظاهر السلمي والاحتشاد والاعتصام والاحتجاج. ونستغرب كيف تكون المظاهرات سلمية وهي تمنع الناس من ممارسة حقها في التنقل، وتمنع الناس من ممارسة حقها في العمل،
وتمنع الناس من ممارسة حقها في العيش السلمي الكريم. إن ماكينة الاقتصاد المصري أصيبت بالعطل وتصلبت تروسها وشرايينها، وأصبحت ماكينة الإنتاج غير قادرة على الإنتاج. ولذلك فإن الاقتصاد المصري يواجه في هذه الأيام أصعب مشكلة يتعرض لها في تاريخه الحديث، ولا سيما أن الاقتصاد المصري من الاقتصادات ضعيفة البنية التي لا تقوى على الصمود أمام الأزمات، وإذا عرفنا أن الإيرادات الرئيسة للنقد الأجنبي تأتي من أربعة مصادر هي السياحة التي بلغت إيراداتها نحو 13 مليار دولار، وثانيها بيع المواد الهيدروكربونية التي هبطت إلى نحو ثمانية مليارات دولار، ثم تحويلات العاملين في الخارج التي هبطت إلى 7,6 مليار دولار، ثم رسوم مرور البواخر من قناة السويس التي ارتفعت إلى 4,7 مليار دولار وفقاً لإحصاءات 2011. وواضح أن هذه الموارد لا تتسم بالقوة والصلابة، ولا تقوى على الصمود أمام العواصف الكبرى كعاصفة الاعتصامات والإضرابات التي ألحقت أضراراً بالغة بكل مورد من هذه الموارد، وأدت إلى تراجع العديد من القطاعات الإنتاجية والخدمية نتيجة للتوقف عن العمل إبان المظاهرات والاعتصامات مما ترتب عليه انخفاض في معدلات النمو وارتفاع في معدلات التضخم.
وقبل اندلاع ثورة الشباب تعهدت حكومة نظيف بتقليص عجز الميزانية البالغ 8,5 في المائة إلى أكثر من النصف بحلول عام 2015، ولكن الاقتصاد المصري بعد اندلاع الثورة دخل في أزمة سياسية بدأت تعصف بكل الآمال والأحلام. لقد كانت مصر نقطة جذب لرأس المال الدولي والإقليمي وبالذات الخليجي، وكانت الشركات تتدافع للاستثمار في مصر، وقال لي رجل الأعمال الصديق أحمد فتيحي إن شركاته تستثمر في مصر أموالاً طائلة، وقال إنه يعيد تقييم استثماراته في ضوء ما يحدث وما سيحدث في مصر، وقال الصديق الدكتور عبد الله دحلان رئيس مجلس الأعمال السعودي ــــ المصري وعضو مجلس إدارة غرفة جدة إن حجم الاستثمارات السعودية في مصر يقدر بنحو 30 مليار جنيه مصري، ويبدو أن كثيراً من الخليجيين بدأوا في تقييم الأوضاع في مصر، إذ إنهم اتجهوا إلى مصر بقوة في السنوات الخمس الأخيرة من حكم الرئيس محمد حسني مبارك، الذي اتسم حكمه بالاستقرار السياسي والاقتصادي.
وإزاء الأزمة الحالية المستعرة بين الحكومة والمعارضة، فإن الاقتصاد المصري المأزوم هو الذي سيدفع فاتورتها الباهظة التي ستعصف بكل الموارد وتدخله في منطقة الخطر الحقيقية! والمؤسف أن المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية أخذت تتابع الأوضاع المصرية المتردية، فأصدرت بياناً قالت فيه إنه خلال الثورة غادر مصر نحو مليون سائح، كما تكبدت مصر خسائر ضخمة من جراء تراجع الاستثمارات الأجنبية، ويومها أعلنت مجموعة بويج الفرنسية التي تشارك في أعمال بناء مترو الأنفاق أن العمل تعرض للتوقف أكثر من مرة، كما أن شلل عمليات إنتاج السلع والخدمات، ناهيك عن خسائر سوق البورصة وشل حركة النقل والسياحة، إلى جانب أعمال النهب والسلب وتدمير المنشآت التي اندلعت أثناء الثورة في جميع أرجاء مصر، كل ذلك ترتبت عليه آثار سلبية على سعر صرف الجنيه الذي هبط إلى أدنى مستوى مقابل الدولار.
ولقد أصيبت سوق السندات بالتفكك بسبب اتجاه المستثمرين الأجانب للخروج وانتشار القلق بين المستثمرين المصريين، ولقد قفزت تكاليف التأمين ضد إعسار السندات 450 نقطة أساس، وتراجع العائد على السندات المصرية التي يقع تاريخ استحقاقها في عام 2020 ليصل إلى 6,3 في المائة، وتراجعت تكلفة التأمين على السندات المصرية لتصل إلى 345 نقطة أساس.
وفي ضوء هذه الخسارات قدر خبراء اقتصاديون حجم الخسائر الاقتصادية التي تكبدها الاقتصاد المصري خلال فترة الاحتجاجات الشبابية بما يصل إلى 100 مليار جنيه، كما أن الاقتصاد المصري أمامه فاتورة طويلة من الطلبات العاجلة الواجب تنفيذها حالاً وفوراً لإنقاذ الاقتصاد من الدخول في سلسلة من التعقيدات التي ستلحق أضراراً بالغة بمسيرة الاقتصاد الوطني المصري.
وفضلاً عن ذلك إن البنوك ستواجه أزمة سيولة نتيجة تسارع عمليات السحب المتزايدة من المودعين، وإزاء ذلك فإن البنك المركزي سيتجه إلى طباعة المزيد من الجنيهات المصرية لسد العجز في السيولة، ونعرف جميعاً أن طبع وضخ مزيد من النقود وطرحها في الأسواق سيؤدي بالضرورة إلى زيادة معدلات التضخم. وما ننتظره للاقتصاد المصري - مع الأسف الشديد - مزيدا من بؤر الإحراج والعجز!