خلال السنوات الأخيرة، تمتعت البلدان النفطية في المنطقة بأفضلية تؤمّنها ثروتها الطبيعية لتحقّق معدّلات نموّ لافتة. اليوم، يبدو الوضع مختلفاً. هذا ما تشي به، بالحدّ الأدنى، تقديرات صندوق النقد الدولي لأداء اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2013. إذ يتوقّع الصندوق أن تتقلّص فجوة النموّ بين البلدان النفطيّة في المنطقة والبلدان صاحبة الاقتصادات المتنوّعة. فالمجموعة الأولى _ وهي تحديداً مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى العراق، ليبيا والجزائر _ ستشهد تراجعاً حاداً في نموّها هذا العام من 5.7% إلى 3.2% فقط؛ أي بالكاد تتخطّى نظيرتها غير النفطية. «يعود هذا التراجع إلى هدوء وتيرة زيادة إنتاج (النفط)، في ظلّ أداء عالمي متواضع» يشرح خبراء الصندوق.
وقد تمكّنت البلدان النفطية في المنطقة من مراكمة فوائض في حساباتها الجارية (وهي رصيد التعامل مع الخارج بعد حركة السلع والخدمات) بلغت 440 مليار دولار في نهاية العام الماضي. ولكن نتيجة التراجع النسبي المتوقّع لأسعار النفط هذا العام، إضافة إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد على نحو غير متوقّع، سيتقلّص رصيد تلك الفوائض إلى 370 مليار دولار؛ أي بمعدّل 16%.
وبالفعل، يشرح تقرير الصندوق، فإنّ مجموعة من البلدان المصدّرة للنفط تشهد منذ الآن توسّعاً في عجزها المالي (قبل احتساب الإيرادات النفطية)، «ما يجعلها أكثر عرضة (للآثار السلبية) لتراجع طويل في أسعار النفط».
ويُمكن تحليل هذا الوضع بطريقة أخرى: لكلّ بلد نفطي هناك مستوى معيّن لسعر النفط يجعل ميزانيته متوازنة عند حدّ معيّن من الإنفاق العام. «وفي معظم البلدان، يُلاحظ أنّ هذا المستوى يتخذ منحى صعودياً». بمعنى آخر، عاماً بعد عام، تحتاج البلدان النفطية الى أن يُسجّل سعر برميل الخام معدّلات أعلى لكي تتمكّن من الحفاظ على وضعيّتها المالية؛ بالحدّ الأدنى «صافي يا لبن»! برأي مدير الصندوق لمنطقة الشرق الأوسط، مسعود أحمد، لن تتمكّن تلك البلدان القابعة على بحيرات من الثروة الطبيعية من الصمود أمام موجة من تراجع أسعار الوقود الأحفوري إلا إذا «احتوت الزيادات في نفقاتها العامّة الجارية، والتي يصعب عكسها عندما تصل إلى حدود معينة». وأبرز مثالين عن إنفاق كهذا فاتورة الرواتب لموظفي القطاع العام، إضافة إلى الإعانات.
هنا يُعيد الصندوق استهلاك نصائحه السابقة، إذ يُسقط من باله تأثير هذه الإجراءات الكمية على الشرائح الأكثر هشاشة، ما قد يُمهّد الى اضطرابات اجتماعية فعلية. غير أنّه يُبرّر هذه الدعوة بأنّ هذه الإجراءات ضرورية في المدى المنظور لاحتواء المخاطر المباشرة «وفي المدى الطويل، فإنّ الإنفاق الفعال في المجالين الاستثماري والاجتماعي يُمكن أن يُخفض الارتهان لإيرادات النفط عبر تعزيز النموّ في القطاعات غير الطاقوية». كذلك يدعو إلى اعتماد «نظام تعليمي عالي النوعية لدعم خلق الوظائف للمواطنين».
ولكن في جميع الأحوال، يبدو وضع البلدان النفطية على المستوى البعيد _ ومن منظور التحليل القائم حالياً _ أنّه غير جذّاب بالقدر الذي تنضح به الثروة النفطية. السعوديّة مثلاً، تُنتج يومياً قرابة 10 ملايين برميل نفط خام، غير أنّها لا تزال تعاني حتّى الآن من مشاكل اجتماعيّة جمّة (على رأسها أزمة السكن) ولديها مصاعب أخرى من مؤشّرات الاقتصاد الكلّي، وصولاً حتّى إلى الأمن الغذائي! ففي التقرير الخاص الذي يُعدّه صندوق النقد عن الاقتصاد السعودي _ والذي صدر للمناسبة، أمس، أيضاً _ هناك تحذيرات للرياض من أنّها إذا لم تتنبّه في هذه المرحلة وتستخدم الفوائض المالية الهائلة التي راكمتها خلال سنوات الفورة النفطية منذ العقد الماضي، فإنّها قد تجد نفسها في ورطة: «من وضع القوّة (الذي تتمتع به المملكة حالياً) الوقت مناسب لدراسة مزيد من الإصلاحات الماليّة. ونشجّع الحكومة في هذا السياق على تطوير أدوات مالية جديدة، بما في ذلك تلك التي تتصدّى للغموض الذي يلفّ أسعار النفط».
يُركّز الصندوق على مخاطر التضخّم في المدى المنظور، ويدعو المملكة لكي تبقى «متيقّظة» وتعدّل سياساتها الاقتصادية الكلية في حال تخطّي ضغط الأسعار مستويات معيّنة.
ولكن ليس التضخّم وحده الخطر الأساسي، والتأكيد هو ليس الأكبر الناتج من إدارة اقتصاد مرهون إلى حدود كبيرة للسعر العالمي للنفط الخام وتقلّباته. يوم أمس مثلاً، أعلنت إحدى الشركات اللبنانية أنّها توسّع استثماراتها إلى حدود مليار دولار في السودان لتأمين منتجات زراعية تبيعها للسعوديّة (راجع عمود الأخبار في الصفحة).
وبالحديث عن لبنان وعن البلدان التي تشبهه لناحية افتقارها إلى الثروة النفطية (حتّى الآن بالحدّ الأدنى، أو مقارنة بالمستويات السائدة في الخليح مثلاً) يقول الصندوق إنّها ستُسجّل تحسّناً وإن متواضعاً في أدائها، إذ سيبلغ معدّل نموها الإجمالي 3%. «في البلدان العربية التي تشهد تحوّلات، يبقى النموّ مكبوحاً نتيجة استمرار الاضطرابات السياسيّة».
ويُمكن أن يُصنّف لبنان أيضاً بين البلدان التي تشهد مراحل انتقالية، رغم أنّه لم يشهد انتفاضات كتلك التي سُجّلت في تونس ومصر. هنا النموّ سيبلغ 2% فقط؛ وهو إن كان أعلى من نموّ عام 2012، إلّا أنّه يبقى دون معدّل المجموعة بواقع نقطة مئوية كاملة.
يرى الصندوق أنّ معدّل نمو عند 3% هو أدنى من حاجة تلك البلدان لمعالجة مشاكلها الاجتماعية، وتحديداً معدّلات البطالة المرتفعة. ولكن هناك مصاعب كثيرة تسود في المنطقة تمنعها من تحقيق أداء أفضل من ذلك. «الاضطرابات الاجتماعية في البلدان المتحوّلة، إضافة إلى التداعيات الإقليمية للصراع المأسوي في سوريا، بما فيها كلفة إعانة النازحين وتعثّر التجارة والمخاوف الأمنية» جميعها عوامل تكبح ثقة المستثمرين.
يُشدّد الصندوق على أنّ الوقت أضحى ضيقاً بالنسبة الى تلك البلدان. «عليها تمتين وضعها المالي في إطار عام يدعم النمو المتوازن اجتماعياً، إضافة إلى السماح بمرونة أعلى لأسعار الصرف».
خلال إطلاق هذه التوقّعات في دبي أمس، شدّد مسعود أحمد، على أنّ الإصلاح في المنطقة عموماً يقوم على خمسة أعمدة: أولاً، اندماج أكبر في التجارة الإقليمية والدولية. ثانياً، إصلاحات لقوانين الأعمال والحوكمة. ثالثاً، إصلاحات في سوق العمل وفي النظام التعليمي. رابعاً، تحسين الولوج إلى التمويل. خامساً، إصلاح المالية العامّة.
الاختلافات شاسعة بين ما يُمكن تحقيقه من إصلاحات في كلتا المجموعتين. العزاء الوحيد للبلدان الهشّة التي لم تُنعم عليها الطبيعة بالنفط الوفير، هو أنّ باستطاعتها ألا تشعر بعقدة نقص حالياً من منظور قياس معدلات النموّ!