حين تفكر في الجسم المثالي ، فكيف تتصوره؟. ربما يرسم الكثيرون الان في اذهانهم فتاة رشيقة وجميلة بعيون زرقاء وخصر منحوت وسيقان طويلة. مثل هذا الجسم هو جذاب بحق، ولكن من وجهة نظر التطور، هو ببساطة مريع جدا.
دعونا نزيل شعر الفتاة، ونجعل الورك اضيق ونقصر الساقين ونزيد قليلا حجم القدمين ونقلص حجم الرأس ونستأصل بعض الاعضاء الفائضة عن الحاجة مثل الزائدة الدودية والعضلات غير الضرورية في اليدين وحول عقب العجز. هذا هو، انه الجسم المثالي.
قد تقولون اننا نكون بهذا قد حصلنا على امرأة قبيحة، ولكن تمهلوا ولا تتسرعوا في الاستنتاج. فبعد كل شئ، هذا هو الجسم المثالي من وجهة نظر عملية التطور، وهو متكيف اكثر للبقاء على كوكبنا.
لماذا؟ دعونا نكتشف.
جلد حبار وقلب كلب وعيون اخطبوط
اختصاصية علم الامراض الدكتورة أليس روبرتس حاولت في بحث حديث خلق نموذج لـ الجسم المثالي من وجهة نظر علم وظائف الاعضاء. والنتيجة كانت خليطا من الجنية "ليغولا" في سلسلة افلام "سيد الخواتم"، و"السيد تامنس" في فيلم "نارنيا"، و"كرانغ" الشرير برأسه الخارج من معدته في فيلم "مراهقو سلاحف النينجا المتحولين".. ها هي المرأة المثالية:

لنبدأ ببشرتها، فعلى مدى سنوات وجودنا، تكيفنا كجنس بشري بشكل جيد مع المناخ، فبشرة شخص أبيض يعيش قريبا من قطبي الكوكب تطلق كميات اكبر من فيتامين "د"، في حين ان شخصا ذا بشرة داكنة يسكن في بيئة استوائية محمي من الاشعة فوق البنفسجية.
من ناحية اخرى، فان شخصا ابيض من البلدان الاسكندنافية سيحترق خلال دقائق تحت الشمس اللاهبة، بينما سيتجمد الشخص ذو البشرة الداكنة في المناخ البارد من دون ملابس دافئة.
تقترح الدكتورة روبرتس ان نأخذ الجلد من الحبار العملاق. فهو يعرف كيف يغير لونه اعتمادا على الاحوال التي يكون فيها. بمثل هذا الجلد، سيكون بمقدور الشخص، وبشكل مستقل، تكييف لونه مع مختلف المناخات على الارض.

والان، نحن بحاجة الى استبدال القلب. قلب كلب سيكون ممتازا. في قلب الانسان المعاصر شريانان تاجيان غير متصلين. وفي حال فشل احدهما بسبب سكتة قلبية مثلا، فان شرايين القلب المتصلة به ستحرم من الاكسجين، وهذا قد يؤدي للوفاة.
أما عند الكلب و"خنزير غينيا"، فكلا الشريانيين مرتبطان ببعضهما، واذا انسد احدهما، يقوم الاخر بالتعويض عن وظيفته. وهكذا، تتقلص فرص الاصابة بسكتة قلبية الى النصف.
اذنا الانسان اقل من ان توصفا بانهما مثاليتان، فهما تحويان خلايا شعر تتلف مع التقدم في العمر، كما ان طبلات الاذن تصبح اقل مرونة ما يؤدي الى ضعف السمع. بالتالي، من الافضل ان نأخذ اذني القط الرشيقتين والاكثر حساسية.

أما العينان، والتي فيها هي الاخرى عيوب عديدة. ففي المكان الذي يدخل منه العصب البصري الى الشبكية يوجد لدى كل واحد منا بقعة عمياء، حيث لا توجد ببساطة مستقبلات ضوئية.
الاخطبوط لا يعاني من نقطة الضعف هذه، فلنأخذ عينيه. كما اننا سنقوم بمضاعفة حجم مقلتي هاتين العينين لنضيف مزيدا من الحدة الى الرؤية. هكذا نكون قد عثرنا على العينين المثاليتين.
تحفة اسمها الجسم المثالي
الان، دعونا نُعدّل الساقين. فبعد كل شئ، هما تعتريهما مشاكل كثيرة. ومن ذلك على سبيل المثال الركبة الهشة والمعقدة في والعضلات الضعيفة. من الافضل ان نستعير ساقي طائر الإيمو، عندها سنستطيع الجري اسرع، وسيكون لدينا اقدام بقدرة امتصاص جيدة للصدمات. ولكن علينا ان نقر انه سيكون من الصعب علينا تسلق الجبال بمثل هذه السيقان.
ولتجنب خطر الاختناق بقطعة بيتزا تهبط عبر الانبوب الخطأ، فانت بحاجة الى فصل الحلق عن مجرى الهواء، وهذه هي هيكلة حلوق الطيور، فالطيور لا تعرف حتى معنى كلمة غصّة.

الخطوة التالية هي جعل عملية الوضع أسهل للنساء. فعلى مدى تسعة أشهر من الحمل، يكون لدى جسم الجنين وقت كاف لينمو بشكل جيد، وخصوصا الدماغ. وبسبب حقيقة ان رأس الجنين كبير نسبيا، فان تعقيدات ربما تظهر وتتطلب تداخلا عبر اجراء عملية قيصرية.
وهنا يصبح منطقيا اكثر ان يتم وضع جنين اصغر في وقت ابكر ببضغة شهور وحمله في حقيبة امام المعدة كما يفعل الكنغر.
والشئ الأكثر اهمية هو الظهر. فلحمايته من الاصابة، علينا استعارة هيكلية اسفل ظهر وحوض الشمبانزي. وبالتالي سنخسر قدرتنا للابد على السير باستقامة. ولن يعود خصر المرأة بتلك الجاذبية، ولكن الحمل على العمود الفقري سيصبح أقل ولن نكون بحاجة الى جلسات تدليك.
هكذا، نكون قد حصلنا على تحفة فنية اسمها الجسم المثالي . واذا كنت مطلعا على نظيرة دارون للتطور، فانت تعرف انها تقول ان الانسان متحدر من القردة. الا يشير ذلك الى ان التطور قد عمل على تقويم ظهورنا لانها افضل.في شكلها الحالي.
اعضاء من بقايا الماضي
حسنا، قامت اليس روبرتس بتجميع الجسم البشري الاكثر انتاجية وصلاحية، لكن عملية التطور تسير باتجاه مغاير تماما، وللاستعداد للقفزة التطورية المستقبلية، علينا التخلص من بقايا الماضي، بما في ذلك الاعضاء التي ورثها البشر من اسلافهم ولم تعد هناك حاجة اليها في الحياة الاعتيادية، وهي ما يطلق عليها "البدائيات".

هذه الاساسيات لدى كثيرين منا اثنتين او ثلاثة منها. حاول ان تضع ذراعك على سطح مستو وقم بضم اصبعيك الخنصر والابهام معا، وشاهد الوتر الذي يظهر خلف معصمك. تسمى هذه ب"العضلة الحنكية".في السابق كانت القردة بحاجة الى هذه العضلة لتسلق الاشجار بسهولة. غير ان البشر لا يحتاجونها.
المثير في الامر ان نحو 15 بالمئة من البشر لا توجد عندهم هذه العضلة.
عظم العجز هو الاخر من اعضاء الجسم البدائية ويرتبط به العصعص. وفي الواقع، من المخيف تصور ان اجدادنا كانت لهم ذيول.
وكمثال اخر، لا نزال نملك عضلة كانت تمكننا من تحريك الاذن في اتجاهات عديدة من اجل الاصغاء للمحيط بشكل افضل، لكن مع التطور استغنينا عن وظيفة هذه العضلة بعدما اصبح من الاسهل علينا ان نوجه رؤوسنا نحو الاصوات لسماعها بشكل افضل.
هناك ايضا أضراس العقل التي كنا بحاجة اليها لمضغ اللحوم النيئة قبل اكتشاف الطهو. الان لم نعد بحاجة اليها، وفي الواقع يمكن ازالتها بسهولة من قبل الاطباء.
كما ان لدينا الزائدة الدودية التي يقول العلماء انها كانت تساعدنا في هضم الاطعمة الصلبة، ومع تغير نظامنا الغذائي مع انتشار الطهو، لم تعد لها اية وظيفة محددة. مع ان علماء اخرين يقولون انها تحوي بعض انواع البكتيريا النافعة
تطور ثوري
والان، وبعد تخلصنا من الاعضاء غير الضرورية سعيا الى الوصول الى الجسم المثالي ، نكون انتقلنا باتجاه التطور الثوري. والتطور هو عملية تحصل حتى لدى حتى اكثر الناس كسلا، ولكننا لا نلاحظها مع اننا نتطور مع كل يوم.

ويجادل علماء جامعة "ييل" قائلين ان الهجرة والعولمة والتقدم التكنولوجي ستجبر البشر على التغير في المستقبل المنظور.
وكمثال، فقد ازداد طول الشخص العادي عشر سنتمترات في المعدل خلال العقود الماضية. لكن هذا ليس التغير الجوهري الوحيد.
فإذا استمرت درجات الحرارة في الارتفاع بفعل التغير المناخي، فسيتسبب ذلك في ان تصبح بشرتنا داكنة اكثر لتحمينا من الاشعة الشمسية. وكنتيجة لحرية التنقل حول العالم فسوف تختلط الاعراق، وقريبا سيصبح صعبا العثور على شخص بعينين زرقاوين، والوجوه ستصبح متشابهة اكثر.
ادمغتنا بالمقارنة مع الانسان الكروماني الذي عاش قبل 40 الف عام، اصبح حجمها اصغر. وهذا لا يعني اننا اصبحنا اقل ذكاء، على العكس تماما، فبفضل انضغاط الدماغ اصبح انتقال الاشارات العصبية بين خلاياه العصبية يتم بشكل اسرع، وبالتالي فان تفكير الشخص الحديث بات اكثر انتاجية من اسلافنا في ما قبل التاريخ.

وعلى الارجح، سيستمر حجم ادمغتنا في التقلص، ما يعني ان حجم رؤوسنا سيصبح اصغر ما سيسمح للنساء بالوضع دون تعقيدات في عملية الولادة ولن يعدن بحاجة الى عمليات قيصرية.
والشعر الذي اعتدنا الاعتناء به، سيغادرنا هو الاخر على الارجح. ومع انه يجعلنا اجمل ويؤدي دورا في عملية انتقاء التزاوج، لكنه ليس ضروريا على الاطلاق من اجل بقائنا.
ومع الوقت، ستصبح ايدينا واصابعنا ارفع بناء على حقيقة اننا في العالم الحديث نستمر في تطوير مهاراتنا الدقيقة. وكمثال فنحن نقوم بالكتابة مستخدمين الهواتف الذكية ومفاتيح اللابتوب وغيرها.
مشكلات جوهرية
التحسينات على اجسامنا، ستكون مع الاسف مترافقة مع مشكلات جوهرية. ففي المستقبل ستكون لدينا انظمة مناعة اضعف وكذلك نتيجة الاعتماد على الادوية واللقاحات التي ظهرت من اجل حمايتنا من الامراض المتنوعة، والتي جعلت اجسامنا غير قادرة على المقاومة من دون هذه اللقاحات.

ومع ازدياد ضعف انظمتنا المناعية نصبح عبيدا للتكنولوجيا الدوائية.
قد يظن المرء ان هذه التغييرات ستستغرق ملايين السنين لتحصل، لكن الواقع هو ان التغييرات تحصل اليوم.
في عام 2018، اكتشف اختصاصيا التنظير الاميركيين بيتروس بينياس وديفيد ال كارلوك جذرا لعضو جديد. وبشكل اكثر تحديدا، اكتشفا تجاويف لم تكن معروفة في السابق، وهي تتخلل ما كان يفترض انها انسجة كثيفة، وهي تستطيع استيعاب ما نسبته 12 بالمئة من سائل الجسم وتعمل كممتص للصدمات.
هذا السائل يمكن ان يكون ايضا مصدرا للخلايا اللمفاوية، وهو ما يشكل اسنادا لنظام المناعة.
ووفقا للاستاذ في جامعة نيويورك للطب نيل ثيس فإن دراسة هذا المكون سيساعدنا على فهم طبيعة السرطان. واذا تبين صحة ذلك، فان البشرية ستصبح قادرة على هزيمة هذا المرض المريع، والذي يتسبب بوفاة ملايين الاشخاص.
وتذكروا دائما. التغير والتطور حقيقتان حتميتان.
* ترجمة خاصة لموقع البوابة