قمة ويش تنيرُ طريق الممرضات نحو تولي الأدوار القيادية

انقضى قرنٌ على رحيل فلورنس نايتنجايل، عن عمر ناهز 90 عامًا، وهي التي اشتُهرت بوصفها مؤسِّسة المدرسة الحديثة للتمريض.
وقد غدا قطاع التمريض في القرن الحادي والعشرين مختلفًا كلَّ الاختلاف عمّا كانت فلورنس تعرفه. فقد أحدثت التطورات التكنولوجية ثورةً في قدرات التشخيص، وحسّنت استراتيجيات العلاج بشكل يفوق الوصف، وتَحَقَّقَ الهدف الأشمل للطب الدقيق في زيادة معدلات العمر المتوقع للبشر في العالم قاطبةً.
وبالرغم من ذلك كلّه، لم يحظَ دور الممرضين والممرضات في اجتراح هذه المعجزة الطبية بالاهتمام الكافي، بل جرى تجاهله تمامًا. برزت فلورنس نايتنجايل إلى الأضواء في منتصف القرن التاسع عشر، بوصفها منارة الأمل بالنسبة للجنود المصابين في حرب القرم، وحذّرت يومها قائلةً: "ما لم تتطور مهنة التمريض سنةً تلو الأخرى، وشهرًا بعد آخر، وفي كل أسبوع يمر، فتذكروا كلماتي جيدًا – نحن نسير من سيءٍ لأسوأ."
لقد تردد صدى تلك الكلمات الاستشرافية على مرّ الأجيال، بل يمكن اعتبارها دعوةً للعمل لكل من شارك في قمة ويش 2018، مبادرة من مؤسسة قطر، التي احتضنتها العاصمة القطرية الدوحة الأسبوع الماضي.
اشتملت أجندة ويش 2018 على تسعة موضوعات من بينها ’التمريض والتغطية الصحية الشاملة‘، واجتمع حشدٌ من الخبراء العالميين في القمة، وانخرطوا في نقاشاتٍ مفعمة بالحيوية حول سبل الارتقاء بمهنة التمريض، والوسائل الكفيلة بتحويل الممرضين والممرضات إلى قادة في قطاع الرعاية الصحية.
وفي هذا الصدد، قالت سلطانة أفضل، الرئيس التنفيذي لـ"ويش": "للممرضات والممرضين منظورٌ فريد من حيثُ مراقبة التحسينات التي تطرأ على العلاج الطبي، وتقديم الرعاية المتخصصة للمرضى الذين يُعانون. لذا يلزم أن يبني قطاع الرعاية الصحية جهوده على ما يمتلكه هؤلاء من معارف لا مثيل لها، ويعمل على ابتداع طرق ومسارات لمهنيي التمريض كي يصبحوا قادةً في مجالهم".
حظيت قضية اختلال التوازن بين الجنسين في قطاع الرعاية الصحية بالحصة الأبرز من النقاشات التي شهدتها قمة ويش 2018، خاصةً ما يتعلق منها بالسبل التي يمكن أن تؤثر على منظور الناس لمهنة التمريض.
وفي هذا الإطار، تقتبس سلطانة أفضل بعضًا مما ورد في تقرير ’وضع النساء في قطاع الرعاية الصحية‘ الذي صدر عن شركة Rock Health في 2013: "حاليًا، بالرغم من أن النساء يُشكلن الغالبية العظمى من قوة العمل في قطاع الرعاية الصحية، فإن نسبة اللواتي يشغلن مناصب تنفيذية عليا في المستشفيات تبلغ 19 بالمائة فقط، و4 بالمائة فقط في شركات الرعاية الصحية. إذن، السؤال المطروح هو لِم لا يزال هناك حاجزٌ زجاجي في القرن الحادي والعشرين؟ وكيف يمكننا التغلب عليه؟ إنها مهمةٌ دونها تحدياتٌ كبيرة، لكننا قادرون على التصدي لها في حال تضافرت جهود كافة الجهات المعنية".
وبحسب استبيان أجرته شركة Rock Health شمل أكثر من 300 سيدة عاملة في الرعاية الصحية، تبيّن أن قرابة نصف المشاركات في الاستبيان 45.4 بالمائة يعتقدن أننا سننتظر 25 سنة أخرى أو أكثر كي تتحقق المساواة بين الجنسين في سوق العمل، في حين قالت 7.5 بالمائة من المشاركات إنها ستتحقق في غضون السنوات الخمس القادمة. غير أن ما يدعو للقلق أن 16.1 بالمائة من المشاركات تنبأن بأن المساواة بين الجنسين لن تتحقق قط.
حاولت قمة ويش هذا العام التصدي لهذه المخاوف من خلال إنشاء ’ تجمع رائدات ويش‘. ويتألف الفريق من عدد من الرئيسات التنفيذيات والقائدات في مجال الرعاية الصحية، وعقد أولَ منتدى له بهدف الارتقاء بالدور القيادي للنساء في مجال الرعاية الصحية، حيث شكّلت مهنة التمريض أحد محاور النقاش الرئيسية.
وفي هذا السياق، قالت سلطانة أفضل: "من الواضح أن قضية اختلال المساواة بين الجنسين مسألةٌ خطيرة في المهن الطبية، بل ويفاقمها المنظور التقليدي السائد بأن مهنة الطبيب يتعين أن يشغلها الرجال ومهنة التمريض يتعين أن تشغلها النساء. ولهذا فإن من بين المهمات التي تقع على عاتق ’ تجمع رائدات ويش‘، وغيره من المبادرات الأخرى التي أُطلقت في قمة هذا العام، دحضُ هذا المنظور باعتباره محضَ خرافة".
على المستوى العالمي، تبلغ نسبة الممرضين الذكور 10 بالمائة بالرغم من وجود بعض الاستثناءات في بلدان معينة (كإيران مثلاً التي تقارب نسبتهم فيها 25 بالمائة).
وقد سعى ويش 2018 لتقييم الأسباب الكامنة وراء هذا الاختلال في جلسة نقاشية بعنوان: ما الذي يُمكن القيام به حيال نقص الرجال في مهنة التمريض على الصعيد العالمي؟
وبحسب ستيف فورد، مدير الجلسة النقاشية ومحرر مجلة Nursing Times الشهرية في المملكة المتحدة، فإن اختلال المساواة بين الجنسين في مهنة التمريض تؤشّر على التوجهات المجتمعية التي لم تتغير بعد. وقال فورد: "بالرغم من أننا نمر في فترة تتصدر فيها النساء مشهد الاكتشافات والابتكارات والقيادة، لا تزال مهنة التمريض تتقدم ببطء نحو اعتماد مبدأ المساواة بين الجنسين. وفي حين أن هناك إشاراتٍ لتغيّر التوجهات السائدة، يتفق المتحدثون في الجلسة النقاشية أن أمامنا الكثير مما ينبغي فعله لزيادة نسبة الرجال في هذه المهنة المهمة، وتيسير الارتقاء بالدور الذي تلعبه النساء كممرضات إلى تولي أدوار قيادية".
يُذكر أن اللورد نايجل كريسب تولى منصب رئيس المنتدى البحثي المعني بالتمريض والرعاية الصحية الشاملة في قمة ويش 2018. ويعتقد اللورد كريسب أن هناك حاجةً لإدخال تحسينات شاملة على مهنة التمريض، جنبًا إلى جنب مع اعتماد منهج شمولي، لتغيير المنظور التقليدي لمهنة التمريض. وقال كريسب: "نحتاج إلى الاستثمار في التمريض والقبالة، وإلى سنّ التشريعات والقوانين الناظمة، وإلى تبني ممارسات جيدة في التعليم والتوظيف. كما أننا بحاجة لتغيير السياسات العالمية تغييرًا جذريًا كي ندرك الأمور التي تستطيع الممرضات والقابلات القيام بها لو حظين بالتمكين المناسب".
وبالرغم من التحديات التي تعترض مهنة المريض، حاولت قمة ويش 2018 تسليط الضوء على عدد من قصص النجاح الملهمة، حيث أبرز معرض ’المبتكرون الشباب‘ على هامش القمة عشرة اختراعات مبتكرة في مجال الرعاية الصحية، والعقول الشابة التي ابتدعتها. ومن بين هؤلاء دلال الشرشاني ومنيرة عدن، الممرضتان في المنظومة الصحية القَطرية اللتين اخترعتا تطبيقًا عمليًا لتحسين تجربة المرضى أطلقتا عليه اسم ’iCommunicate‘ ويستهدف القضاء على الحواجز اللغوية بين الكوادر الطبية في المستشفيات والمرضى.
وقالت دلال الشرشاني: "يمكن للحواجز اللغوية في المستشفيات أن تسبب سوء فهم بين المرضى والممرضات، ما ينعكس سلبًا على النتائج العلاجية للمرضى وجودة وسائل تقديم الرعاية لهم. ومن هنا، قمت وزميلتي باختراع هذه البطاقات البصرية لتيسير التواصل بين الطرفين".
يُذكر أن مبادرة ويش، إحدى مبادرات مؤسسة قطر، وعدد من مؤسسات الرعاية الصحية الأخرى، تعمل دون كلل للارتقاء بمهنة التمريض في دولة قطر، وتضع على رأس أولوياتها زيادة عدد المواطنين الذين يختارون التمريض مهنةً لهم. وفي هذا الإطار، هناك إدراكٌ واسع بأن تحقيق ذلك يستلزم التأثير على التوجهات المجتمعية السائدة حيال هذه المهنة.
ومن الأمثلة على ذلك السيدة إنعام النعيمي، رئيس قطاع التمريض في مؤسسة حمد الطبية، وهي شخصية ملهِمة برهنت على إمكانية تطوير مهنة التمريض. ومع ذلك، فقد توجّب على إنعام في البداية أن تتغلب على تحفظات عائلتها قبل تحقيق النجاحات. وتتذكر إنعام تلك الفترة، وتقول: "في بادئ الأمر لم تتقبل عائلتي مهنة التمريض، ولكنهم مع مرور الوقت، وبعد رؤيتي أعمل، والتعرف على أهمية هذه المهنة، أصبحوا فخورين بي كممرضة. لقد اخترت هذه المهنة بدافعٍ من الحبّ واليقين بأنها تمكّن المرء من الإسهام في علاج المرضى والتعاطف معهم. إنها مهنةٌ تستطيع بفضلها مدّ يد العون والمساعدة للآخرين، وآمل أن تلقى اهتمامًا أكبر وأن أرى المزيد من الشباب والشابات القطريات يختارونها مهنةً لهم. كما أنني فخورة بالممرضات اللواتي يعملن في غرف الطوارئ ويواجهن التحديات بالصبر والالتزام والعزيمة. أما أمنيتي الوحيدة فتتمثل في رؤية الممرضات حول العالم وقد نلن الاحترام والثناء والتكريم، تقديرًا لمهاراتهن وتعاطفهن، ومُنِحن الفرصة لتولي أدوار قيادية".
خلفية عامة
مؤسسة قطر
تأسست مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع سنة 1995 بمبادرةٍ كريمةٍ من صاحب السموّ الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر بهدف تنمية العنصر البشري واستثمار إمكاناته وطاقاته.
توجّه مؤسسة قطر اهتماماتها إلى ثلاثة مجالات هي التعليم والبحث العلمي وتنمية المجتمع، كونها ميادين أساسية لبناء مجتمع يتسم بالنمو والإستدامة، وقادر على تقاسم المعارف وابتكارها من أجل رفع مستوى الحياة للجميع. تُعد المدينة التعليمية أبرز منجزات مؤسسة قطر وتقع في إحدى ضواحي مدينة الدوحة، وتضمّ معظم مراكز المؤسسة وشركائها.