في المرحلة الثانوية كنت أمارس عادة "الزوغان" من المدرسة -أحيانا- بصحبة مجموعة من الزملاء، ونتوجه إلى أحد المقاهي القريبة لمشاهدة أفلام هندية، كنا نعتبرها -رغم سذاجتها وافتقادها للمنطق- أكثر فائدة لنا من البقاء بين جدران الفصول.
ولأن المدرسة كانت في بعض الأحيان تخلو من طلابها، ويتوقف ذلك على نوع الفيلم الذي يعرضه المقهى، فقد تقدم المدير الذي كان شخصية جادة ومسيطرة ببلاغ إلى مركز الشرطة متهما صاحب المقهى بالتسبب في ضياع المستقبل الباهر المنتظر لمئات الطلاب.
وبعد البلاغ أغلق المقهى لفترة، ثم أٌعيد افتتاحه، ولكنه وُضع تحت مراقبة المخبرين ورجال المباحث، ولكن صاحبه لم يقف مكتوفي الأيدي، وأثمرت خبرته بالأفلام الهندية التي كان يعرضها من خلال جهاز فيديو عتيق، أكل عليه الدهر وشرب، عن حيلة مبتكرة، إذ كتب لافتة على ورق كرتون مقوى وبخط رديء يتناسب مع أجواء المكان: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا - ممنوع دخول الطلبة أثناء اليوم الدراسي".
وكان للافتة هذه مفعول السحر، مع قليل من "تفتيح الدماغ" مع المخبرين، وعاد للمقهى رواجه، لأن صاحبه "خلص ضميره" وأعلن صراحة وعلى الملأ عن تمسكه بمكارم الأخلاق، وعن حظره دخول الطلبة، بغض النظر عما يحدث فعليا على أرض الواقع، إذ أنه لم يمنعنا أبدا في أي وقت من الدخول، بل اجتهد في جلب نوعية أفضل من الأفلام، ما زاد من حصيلة الطلبة المزوغين. تذكرت ُ هذه القصة وأنا أتابع التصريحات الحكومية حول استحالة زيادة الحد الأدنى للأجر (الشامل وليس الأساسي) عن 400 جنيه أي أقل من 70 دولارا أمريكيا، بدعوى أن أي زيادة سوف تؤدي إلى موجات عاتية من التضخم. الحكومة، كصديقنا صاحب المقهى تحتمي بلافتة منافية للحقيقة والواقع، مع أنها أكثر من يعلم أن زيادة الحد الأدنى للأجور إلى القيمة التي تطالب بها النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني لن يخلق موجات تضخمية إذا تم اتخاذ عدد من التدابير والإجراءات البسيطة التي من شأنها تفعيل آليات السوق "النائمة" بما يؤدي إلى ضبط الأسعار.
بعض الخبثاء فسروا إصرار الحكومة على الـ400 جنيه كحد أدنى، بعجزها عن توفير موارد إضافية في الموازنة العامة للدولة للوفاء برواتب موظفيها البالغ عددهم نحو 6 ملايين، ما قد يجعلها مضطرة للجوء إلى الخيار الصعب وهو "طباعة البنكنوت" الذي من شأنه طبعا أن يخلق -وحده- موجات تضخمية عاتية كتلك التي تلوح بها الحكومة في لافتتها.
وبالطبع أستبعد أن تلجأ الحكومة إلى هذا الخيار، فلا أعتقد أن وزراءنا بهذه السذاجة. أي زيادة مرتقبة في رواتب موظفي الحكومة، وأيا كان حجمها لن تؤدي إلى موجات تضخمية بشرط أن تعتمد على موارد حقيقية في الموازنة العامة للدولة سواء كانت ضرائب أو رسوم جمارك أو حتى سندات وأذون خزانة. وإذا كانت الحكومة سارعت إلى التلويح بلافتة "موجات التضخم" حتى لا تقوم بما يجب عليها أن تفعله من أجل التوصل إلى حد أدنى عادل، مثلما تصرف صاحب المقهى، لأنها تٌثبت بذلك على نفسها الاتهامات بحماية الفساد وسعيها نحو "تقنينه" بسبب الرواتب الخيالية التي يتقاضاها بعض المحظوظين من العاملين لديها، وعلى رأسهم جيوش المستشارين والخبراء الذين يكتفي بعضهم فقط بـ"هبر" مئات الألوف من الجنيهات سنويا من دون القيام بعمل يذكر.
هل يعقل -مثلا- أن يتقاضى خريج حديث مبلغا شهريا يزيد على الراتب "الرسمي" لرئيس الجمهورية، لمجرد أنه "محظوظ إبن محظوظ"؟! وإذا كانت الحكومة راغبة حقا في البحث عن موارد لتمويل الزيادة المتوقعة في الرواتب لماذا لا تسارع بغلق الباب الخلفي للفساد "المقنن" المعروف اصطلاحا بالمكافآت والبدلات والمصروفات النثرية. هذه البنود التي تجعل رئيس أحد البنوك المملوكة للدولة يتقاضى راتبا شهريا "رسميا" يزيد عن 3 ملايين جنيه. لماذا لا تفكر الحكومة بوضع حد أقصى للأجور، وتوفر على نفسها مليارات من الجنيهات تذهب سنويا إلى جيوب من لا يستحقون؟ ألن يؤدي ذلك إلى توفير جزء من الموارد اللازمة لتحسين أوضاع "الكادحين في الأرض" المعروفين رسميا بإسم صغار الموظفين؟ وإذا كانت الحكومة لن تجرؤ على خفض أجور "المحظوظين" لأنهم في النهاية "مصريون أبناء مصريين" ولا يصح أن نغبنهم بسبب كونهم "ولاد ناس "، فلماذا لا تفكر الحكومة في فرض ضريبة تصاعدية على الدخل، كما هو الحال في أعتى "الرأسماليات" الغربية، وهو ما سيوفر لخزانة الدولة أيضا مبالغ طائلة سنويا. لا شك لدي أن صاحب المقهى كان "أشطر" من الحكومة وأدار أموره بشكل ألطف، وكم كنت أتمنى أن ينضم وزراء الحكومة إلينا في جلسات الأفلام الهندية، حتى يكتسبوا قدرا من "الخيال" يعينهم على ابتكار حلول خلاقة لمشاكل البلاد، بدلا من الاكتفاء بالتلويح باللافتات و"الفزاعات".
إذا وصلتك هذه الرسالة البريدية فأنت ضمن مجموعة مختارة من الأصدقاء والمعارف والإعلاميين والمهتمين بالشأن العام، إذا كانت تسبب لك إزعاجاً أرجو إخباري حتى أقوم بحذف بريدك الإلكتروني من قائمة الإرسال.