لا شك بأن اقتصاد لبنان يعاني من صراعات الداخل كما الخارج. كل اقتصاد يتطور مع الوقت سلبا أم ايجابا في هيكليته وحجمه. منذ سنة 1700، ارتفع معدل العمر المرتقب دوليا من 30 الى 77 سنة بفضل تطور الغذاء وتحسن مستوى الصحة وانتشار التكنولوجيا الطبية واعتماد ظروف وقوانين وشروط عمل أفضل بالرغم من أنها ما زالت غير فضلى.
يقول «داروين» إن المستقبل ليس للأقوى ولا للأذكى بل لمصلحة الذي يتقبل التغيير ويتأقلم معه. يقول الاقتصادي «لاندس» إن قلب عملية التطوير الاقتصادي والتنمية الاجتماعية هو ذهني أو فكري ويرتكز على المعرفة وانتشارها. يقول الاقتصادي «ايسترلين» إن ركيزة النمو الاقتصادي الحديث هي تقدم العلوم وانتشار التعليم الحديث. في رأي «ايسترلين»، اعتمد المجتمع الدولي خلال القرون الماضية وخاصة منذ الثورة الصناعية على «دين المعرفة» المرتكز على انتشار المدارس وتوافر المعلمين وحسن أدائهم لواجباتهم.
دوليا، ترتكز اقتصادات اليوم على الخدمات بعد ان اعتمدت تاريخيا أولا على الزراعة وثم الصناعة واليوم على القطاع الثالث المتزايد حجما وتأثيرا وانتشارا. ليس هنالك اقتصاد حديث لا يمر في فترة أزمة مصدرها مصرفي أو نقدي أو مالي أو حتى حقيقي.
كولومبيا دولة أميركية لاتينية عانت الأمرين من الفساد والارهاب والنشاطات غير الشرعية، وها هي اليوم تصحح أوضاعها مع الرئيس «سانتوس» وتستقبل في الشهر المقبل القمة الأميركية السادسة التي يحضرها 32 رئيساً باستثناء الكوبي لأسباب سياسية. خلال السنتين الأخيرتين، ارتفعت الاستثمارات والصادرات بعد ان سيطرت الدولة على الأوضاع الداخلية. تطورت الديموقراطية في الداخل وتم استثمار الثروات كالنفط والفحم والذهب استثمارا هادئا وفاعلا. تحسنت العلاقات مع دول الجوار بالرغم من بعض الخلافات السياسية مع فينزويلا والاكوادور وبوليفيا والبيرو. استفادت كولومبيا خلال السنوات الست الماضية من مساعدات من الولايات المتحدة بلغت 6 مليارات دولار. كولومبيا تطورت ايجابا وهنالك دول عديدة كاليونان وليبيا تتطور سلبا لأسباب مختلفة. كل الاقتصادات تتحرك نتيجة السياسات والأوضاع الداخلية والخارجية، وبالتالي ليس هنالك ثبات أو جمود دائم.
ما هي المؤشرات التي يجب اعتمادها لتقييم الاقتصاد اللبناني أو أي اقتصاد وهل الوضع اللبناني مقبول في ظل التحديات الداخلية والخارجية؟ في أرقام صندوق النقد الدولي تدنى نمو الناتج المحلي الاجمالي من 8,5% في سنة 2009 الى 1,5% في سنة 2011. مستوى النمو مهم، اذ يؤثر مباشرة على دخل المواطن واستهلاكه كما ادخاراته. يؤثر على الفقر وتوزع الدخل ويساهم في تحسين مستوى الصحة والتعليم والغذاء والبيئة كما بقية الخدمات الاجتماعية. ما زال الوقت مبكرا لوضع توقعات جدية لهذه السنة، اذ ان معظم العوامل تقع خارج ارادتنا أي مرتبطة بالوضع العربي وخاصة السوري كما بالشريك الأوروبي الذي تربطنا به علاقات قوية وتاريخية.
ما يظهر الى العلن بالنسبة للأوضاع الخارجية حتى الآن هو حتما سلبي، لكن يمكن أن يتغير خلال الأشهر المقبلة. أما الوضع الداخلي، فالصراع ليس فقط سياسيا وانما أيضا اداري وانتخابي قبل سنة من الانتخابات النيابية. من نتائج هذا الصراع عدم قدرة الحكومة على القيام بالتعيينات الادارية الأساسية وتقديم مشاريع القوانين بالاضافة الى التخبط الذي ظهر مع تصحيح الأجور ودور الدولة غير المسهل للعلاقات بين العمال وأرباب العمل. أما النقص الأساسي فهو الاحصائيات الدورية الكاملة والصحيحة التي يجب أن يرتكز عليها أي تحليل اقتصادي جدي.
في كل اقتصاد هنالك عوامل قصيرة الأجل مرتبطة بالدورات الاقتصادية الطبيعية وأخرى متوسطة وطويلة الأمد مرتبطة بالنمو وركائزه ومقوماته. تختلف السياسات الاقتصادية تبعا للهدف الموضوع أمام مقرري السياسات. للسياسات المالية والنقدية أهداف ذات آجال متنوعة تبعا للحاجة، اذ هنا تكمن أهمية تحديدها تحديدا صحيحا ومناسبا. ما هي العوامل التي يجب النظر اليها لتحليل أوضاع اقتصاد كلي كاللبناني؟ هنالك 4 عوامل تحدد مدى نجاح أي اقتصاد في لعب دوره تجاه مواطنيه من نواحي الخدمات الانسانية والاقتصادية والانسانية.
أولا: التضخم. يمكننا القول بأننا نجحنا في لبنان في الحفاظ على نسب تضخمية منخفضة تقدر تبعا لمؤشر أسعار المستهلك بـ 1,2% لسنة 2009 و4,5% لسنة 2010 وهي ناتجة ليس من تطبيق سياسات فاضلة، بل من انخفاض حركة الطلب في مختلف القطاعات بدأ من الزراعة الى الصناعة وحتى الخدمات. عندما يرتفع الطلب مجددا سيرتفع مؤشر الأسعار إذا بقي مستوى الانتاجية الحالي كما هو. يبقى مؤشر التضخم منخفضا بالرغم من العجز المالي المرتفع الذي يصل الى حدود 10% من الناتج مما يفسر عدم الاطمئنان تجاه تطور التضخم في المستقبل. هنالك تنبه لنمو الكتلة النقدية، علما أن قسما محترما من الاقراض المصرفي يذهب الى القطاع العام ولا يدخل في الحركة الاقتصادية العادية. من مزايا سياسة سعر الصرف الثابت هو ربط سياستنا النقدية الوطنية بالأميركية، وبالتالي الاتكال على مصرف مركزي متمرس في مكافحة التضخم.
ثانيا: الناتج المحلي الاجمالي. ينمو بدرجات مختلفة تبعا للأوضاع الداخلية والخارجية، لكن الناتج الفردي ما زال منخفضا نسبيا ولا يتعدى رقم العشرة آلاف دولار سنويا مع أفضل التقديرات. في كل حال رقم الناتج مهم، لكنه ليس الأهم اذ يجب مقارنته بالناتج الأفضل أي الذي يتحقق عندما يستعمل الاقتصاد كل موارده بأفضل الطرق الممكنة. لا شك بأن لبنان لا يستعمل كل طاقاته في الانتاج ليس فقط البشرية بل المادية أيضا. هنالك فجوة كبيرة بين الناتج الأفضل والناتج الحالي، ما يشير الى هدر كبير للموارد ينعكس سلبا على النمو ومستوى المعيشة ويكبر فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء. من أسوأ نتائج سوء توزع الدخل هي المشاكل الاجتماعية والجرائم ذات الأهداف المادية التي بدأت تزداد مؤخرا في غياب المعالجات الحكومية المناسبة. تعتمد زيادة الناتج على تنظيم أفضل للقدرات الانتاجية وتطوير نوعية عوامل الانتاج عبر التدريب والتعليم كما التطور التكنولوجي العام. تعتمد أيضا على وجود ادارة فاعلة في القطاعين العام والخاص كما على إدخال كل الطاقات في العملية الانتاجية.
ثالثا: البطالة المتفاقمة التي تغيب الاحصائيات عنها قصدا أو بداعي التقصير والاهمال، والنتيجة واحدة. مؤشرات البطالة الداخلية مرتفعة وهي كانت ستكون أعلى بكثير لولا قدرة اللبناني على العمل في الخارج مما يخفف الضغط الاجتماعي الداخلي. هنالك دور للقطاع العام في تسهيل إيجاد فرص عمل للشباب والعاطلين من العمل، وهذا هو سبب وجود «المؤسسة الوطنية للاستخدام» المرتبطة بوزارة العمل. من أصعب التحديات هي إيجاد فرصة عمل بأجور محترمة تسمح للموظف أو العامل بالعيش الكريم.
رابعا: العلاقات الاقتصادية والمالية الخارجية التي تنعكس أرقاما في ميزان المدفوعات. هنالك عجز مزمن في ميزان الحساب الجاري يفوق نسبة 10% من الناتج، ما يجعل نتيجة ميزان المدفوعات مرتبطة بقوة بما يدخل من أموال الى لبنان. يرتفع حجم الاحتياطي النقدي ليصل الى حدود 80% من الناتج المحلي. في حال تحسن المناخ الاقتصادي العام، يمكن توقع زيادة في الاستثمارات المباشرة تنعكس ايجابا على النمو والعمالة وتساهم في تطوير الاقتصاد.
لا شك بأن اللبنانيين لا يقيّمون ايجابا أوضاع اقتصادهم، وهم يشعرون بالضغط المادي والاجتماعي لكنهم يأملون بتحسن العوامل المؤثرة في الداخل والخارج. هدر الوقت سيئ والتكلفة البديلة مرتفعة لأننا قادرون في المبدأ على إعطاء نتائج أفضل وان تكن غير فضلى. ارتفاع الفرص الضائعة سيؤثر ليس فقط على الحاضر بل على المستقبل، من هنا ضرورة السعي الى تحسين النتائج في القطاعين العام والخاص.