رغم الحرائق التي تزداد اضطراماً في جبل الكرمل فإن الصحافة الإسرائيلية وجدت أن ذلك لا يغطي البتة على تقارير "ويكيليكس". وهكذا أفردت للموقع الالكتروني ولمؤسسه جوليان أسانج وللوثائق حيزاً كبيراً في صفحاتها مع تركيز على التحليل والتوصيف. وأشارت بشكل واسع إلى ما يتعلق بإسرائيل والدلالات خلف ذلك.
وكتبت سيما كدمون في "يديعوت أحرونوت" أنه من السابق لأوانه تحديد تأثير موقع "ويكيليكس" في إسرائيل، أو الضرر الذي سبّبه لنا، و"مع ذلك كله، توجد أمور عديدة تثيرها القضية. يُخيل الينا أننا رأينا حتى الآن بدايتها فقط. تبين لنا مثلاً أننا غير ذوي أهمية كبيرة. وأننا برغم ما يُخيل إلينا لسنا مركز العالم. نحن أقل إثارة لاهتمام النظام الدولي والأميركي مما يُخيل لنا، وإسرائيل أقل مركزية في واقع الشرق الأوسط مما تعتقد كثيراً".
وتشير كدمون إلى أن "تقارير الموقع تتناول المحادثات الدبلوماسية التي تجري مع زعماء العالم العربي، وإيران قبل كل شيء، وبعد ذلك شؤوناً إقليمية، وتُثار إسرائيل أحياناً بصفتها موضوعاً يجب أن يُضرب عليه بعلامة "اكس" أكثر من كونها موضوعاً يشغل المتحدثين حقاً. ومع ذلك كله يحسن الجلوس في هدوء. لا ينبغي أن نطلق أقوالاً قد تورطنا دبلوماسياً أو تجعلنا حمقى أو متعجرفين. إن قول (رئيس الحكومة بنيامين) نتنياهو أمام لجنة المحررين، انه كان حذراً في محادثاته مع الدبلوماسيين ولهذا لم يحدث لإسرائيل حرج من تسريب ويكيليكس - لم يكن ما يدعو إليه، ولن نقول إنه كان سابقاً لأوانه: ففي هذه الأثناء نُشر فقط 50 وثيقة من 7500 ما زلنا لا نعرف عنها شيئاً، فيها احتمال أن تسبّب ضرراً للدولة. قد لا يكون ضرراً أمنياً أو سياسياً داخلياً، لكنه بالتأكيد قد يكون ضرراً سياسياً داخلياً. فإمكانية الثرثرة وقول الحماقات يكبر كلما تضاءلت المستويات. يكفي أن يكون عضو كونغرس قد التقى عضواً من حزب نتنياهو وقيل هناك شيء عن عوفاديا يوسف. قد يكون هذا علّة عندنا لإسقاط حكومة. فالآن خرجت إلى الخارج الأقوال التي قالها رئيس الحكومة عن سلوك (ايهود) اولمرت في حرب لبنان. إنه نتنياهو نفسه الذي تظاهر بالتصرف الرسمي، لكنه في الخارج قال ما قال لسكرتير ثانوي ما".
أما الخبير الأهم في تاريخ المشروع النووي الإسرائيلي الدكتور أفنير كوهين فكتب في "هآرتس" تحت عنوان "مملكة السر بقيت مغلقة" أن هذا الموضوع لم يطرأ عليه تغيير. وأشار إلى أن ثمة شيئاً ما فوضوي وصبياني معاً في ظاهرة "ويكيليكس". فمثل الولد الصغير مع لباس الملك الجديد الذي يتبيّن دهشاً أن عالم الكبار مليء بالنفاق، والرياء وعدم النزاهة على خلاف مطلق لما ربّوه عليه، يصرّ على أن يكشف على الملأ أكاذيبهم - يتناول موقع "ويكيليكس" عالم الدبلوماسية وقواعد السرية فيه. إن جوليان أسانج، مثل ولد يرفض أن يكبر، يقلب المائدة بتصرف فوضوي ويكشف كل ما وصل يده كي يروه.
ويوضح كوهين أن النتيجة سلسلة معارف آسِرة لجوهر الدبلوماسية. فمن جهة، وبرغم الكشف بالجملة عن ربع مليون وثيقة بعضها في الحقيقة ذو حساسية، يبدو أن الكشف لم يكد يمس جواهر تاج الأمن القومي لأميركا أو حليفاتها. يبدو أن إطلاق الوثائق لم يؤدِ إلى الكشف عن أسرار دولة لم تكن معلومة حتى الآن، في السياسة أو الاستخبارات أو التكنولوجيا.
وتابع "تبيّن سريعاً أن الوثائق المسرّبة لم تغير كثيراً شكل إدراك الخبراء الأكاديميين (الذين لم تُكشف لهم المواد السرية) لمجالات تخصصهم. لم يتعلم كاتب هذه السطور أي شيء جديد من قراءة محضر جلسة محادثة مستشار الأمن القومي عوزي أراد ورجاله للوفد الأميركي برئاسة نائبة وزيرة الخارجية ايلين تاوشر، التي جاءت في كانون الأول 2009 لتنسيق المواقف في الشؤون الذرية. إن ما قدّرت أن يُقال في اللقاء قد قيل بالتقريب".
ويخلص إلى أن "الولد الصغير "ويكيليكس" لم ينجح في الوصول إلى أسرار التاج، فبعد كل شيء يُحفظ جوهر مملكة السر حفظاً لا يُمكّن من التغلغل إليها، لكنه نجح في الوصول إلى مناطق كثيرة في مملكة السرية. يبدو أنه كان الافتراض أن الناس يدركون الفرق بين الأسرار الحقيقية والأمور التي تستحق السرية، وأننا جميعاً نحترم السرية وتبين أن ليس الأمر كذلك".
ولكن الباحث الصحافي في "هآرتس" أرييه شافيت يحمل بشدة على أسانج ويصفه بـ"المجرم الخطير"، معتبراً أن "الرجل الغريب ذا الشعر الأشقر الطويل ليس فقط إرهابي معلومات من نوع جديد. وهو ليس فقط فوضوياً يهين القوة العظمى الكبرى في العالم. وهو ليس فقط مغرور عديم الثبات يشوّش الدبلوماسية الحديثة ويضعضع النظام العالمي. جوليان أسانج هو مجرم خطير لأنه حطّم العقيدة السائدة في كل ما يتعلق بفهم الشرق الأوسط".
ويضيف "العقيدة تقول الآتي: المشكلة المركزية في الشرق الأوسط هي النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. المشكلة المركزية في النزاع هي الاحتلال. المشكلة المركزية في الاحتلال هي المستوطنات. وعليه، إذا ما أوقفنا المستوطنات فقط، وانتهى الاحتلال، فإن النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني سيحلّ والشرق الأوسط سيكون مستقراً".
وتابع "في العقد الأخير تجمّدت العقيدة وقدّست. وقد أصبحت بمثابة معتقد لا مجال للشك فيه. كانت هذه هي الحقيقة التي أقسموا عليها في البيت الأبيض والاليزيه ومقر الحكومة البريطانية. كانت هذه الحقيقة التي أفادوا بها في "واشنطن بوست" وفي "لوموند" و"غارديان". كانت هذه هي الحقيقة ذات المفعول الأخلاقي الأعلى التي صمّمت المذهب الفكري للنخب المتنورة في الغرب ووجّهت سياسة القوى العظمى الغربية. جاء أسانج وحطّم العقيدة. الوثائق السرية التي نشرها ويكيليكس أثبتت بأن ليس المستوطنات، ليس الاحتلال وليس النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني هي المشاكل المركزية للشرق الأوسط. الرسائل الالكترونية السرية أثبتت بأن العالم الذي يتحدثون عنه في واشنطن وباريس ولندن هو عالم وهمي. فقد أثبت أسانج بأنه لا توجد أي صلة بين الشرق الأوسط الحقيقي وبين الشرق الأوسط الذي يروون عنه في "واشنطن بوست" و"لوموند" و"غارديان". لقد كشف حقيقة أن العالم العربي بأسره لا يعنى اليوم إلا بمشكلة واحدة: إيران، إيران، إيران".
وتابع "لا يوجد أي شك في ذلك: أسانج هو مجرم خطير. ولكن، أسانج خطير ليس لأنه تسلل إلى منظومة معلومات بنتاغون بل لأنه كشف انعدام الاستقامة الثقافية للطبقة المثقفة الغربية. أسانج خطير لأنه سرب أسرار دولة بحجم غير مسبوق، ولأنه كشف لنا جميعاً بأن الخطاب السائد في الغرب سطحي وكاذب. أسانج خطير ليس لأنه أحرج حلفاء الغرب بل لأنه أثبت بأن الغرب مصاب بالنزاهة السياسية التي تجعله منقطعاً عن الواقع السياسي. لقد عرض أسانج أمامنا جميعاً مرآة كبرى، تثبت كم جعلنا أغبياء في العقود الأخيرة. عقيدة كهذه أدت بنا ألا نرى على نحو صحيح التحدي التاريخي الذي نقف أمامه".