يصعب أن نُقدر تقديرًا صحيحًا القيمة العظيمة لمكتشفات الغاز الطبيعي والنفط الخام في حقول البحر المتوسط التي تسيطر عليها دولة إسرائيل، من غير أن ننظر في الماضي قليلاً. كان لإسرائيل منذ أن أُسست دولة علاقة حب وتوق إلى النفط الخام لأنه لا يمكن تحريك اقتصاد بغير محروقات من مصادر الطاقة، ورفضت الدول الغربية جميعا أن تبيعنا نفطًا خامًا خشية القطيعة العربية.
لم يكن لنا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أكثر من ممدتين بالنفط الخام وهما المكسيك ومصر (إثر الاتفاقات المرحلية بعقب حرب يوم الغفران)، وبذلنا قبل ذلك كل جهد لنجد نفطًا خامًا وغازًا طبيعيًا في داخل حدود إسرائيل بيد أنه لم يُسجل أي إنجاز مهم في هذا المجال منذ كان اكتشاف حقل «حيلتس» في الجنوب في 1952. في الفترة التي عملت فيها مديرًا عامًا لوزارة الطاقة في بداية ثمانينيات القرن الماضي كنا نقوم أمام دعامة مكسورة، فقد فشلت الشركات التي تملكها الدولة والتي عملت في هذا المجال فشلاً كبيرًا وكدنا نستسلم. وآنذاك فقط بدأنا ندرك أنه يجب علينا أن نخرج إلى خارج حدود البر إلى البحر المتوسط.
إن المكتشفات المهمة في السنين الأخيرة في هذا المجال التي بدأت تتحقق الآن مع بدء إمداد شركة الكهرباء ومجموعة شركات صناعية كبيرة بالغاز الطبيعي من حقل «تمار»، ثمرة مبادرة ومخاطرة واسعتي النطاق للمستثمرين الخاصين. ولم تنشئ الدولة الإسهام العظيم في تقوية الاقتصاد بل كانت المبادرة لتلك الشركات التي استطاعت أن تجند استثمارات مالية ضخمة بل استطاعت أن تضم مستثمرين أجانب. إن الغاز الطبيعي الذي مصدره إسرائيل يرفع الاقتصاد كله إلى أعلى. وهو يسهم إسهامًا مباشرًا في خفض تكاليف إنتاج الكهرباء وإلى خفض أسعار الكهرباء للمنازل وقطاع الأعمال نتاج ذلك. وتستفيد من ذلك مجموعة شركات صناعية كبيرة مهمة جدًا للاقتصاد فبدل استعمال المازوت الباهظ الكلفة أو الفحم تنتقل إلى مصدر طاقة رخيص وعتيد ونقي، ويأتي من هنا فائدة لحماية البيئة أيضًا. ويزيد إنتاج الفرد وتقوى صورة إسرائيل الصغيرة باعتبارها دولة تعرف كيف تطور اقتصادًا سليمًا، في العالم. وتُثري خزانة الدولة في المستقبل القريب بزيادة دخل يبلغ مليارات كثيرة يمكن أن تُستعمل لمضاءة العجز المالي ولدعم الاستثمارات في البنى التحتية في النقل العام والمجتمع، وكذلك يتحسن الميزان التجاري «التصدير في مقابل الاستيراد». وإلى جانب ذلك يوجد من يُبرد الحماسة ويدعو إلى عدم تمكين الشركات ذات أعمال التنقيب من التصدير إلى الخارج، بل يدعو إلى إلزامها أن تُمد المنظومة الصناعية في إسرائيل فقط بمصادر الطاقة.
وهناك من يخشون أيضًا من أن يجلب علينا تصدير الغاز «المرض الهولندي» أي تدفق زائد للعملة الأجنبية على الدولة وقوة الشيكل وأن يسبب ذلك إضعاف القدرة على المنافسة وتصدير الصناعة المحلية. وأرى أنه ينبغي رفض هذه الآراء بحسب رأيي المتواضع. إن الغاز الطبيعي في البحر المتوسط تملكه الشركات التي حصلت على امتياز التنقيب عنه واستخراجه وعملت بمقتضى القانون، وهو ملكها الخاص مع الخضوع للشروط والقيود التي فُرضت عليها وقت منحها الامتيازات. أجل ينبغي أن يؤخذ في الحسبان احتياجات السوق المحلية لكن لا يمكن من الجانب القانوني أن نمنعها من التصدير، فما لم تُضر بالمصالح الأمنية والاستراتيجية للدولة فمن حقها الكامل أن تصدر وتزيد أرباحها إلى الحد الأقصى.
ونقول في ما يتعلق بالمرض الهولندي انه يقوم على افتراض أن يقوى شيكلنا، ومعنى ذلك أننا سندفع أو نحصل على قدر أقل من الشواكل عن كل ما نشتريه أو نبيعه بعملة أجنبية، أجل سيضطر بعض التصدير الإسرائيلي في هذه الظروف إلى تعميق النجوع التنظيمي كي يطور القدرة على المنافسة، ومن المؤكد أن هذا إجراء سليم، لكن لا يجوز أن نتجاهل حقيقة انه يكمن في تقوية الشيكل نعمة كبيرة أيضًا، فثمن منتوجات الاستهلاك التي نستوردها سينخفض وتقوى المنافسة وسيضطر المنتجون المحليون بإزاء خفض أسعار المنتوجات المستوردة إلى خفض أسعار منتوجاتهم للجمهور العريض. وسيقل سعر المواد الخام المستوردة للصناعة أيضًا، وتزيد القيمة الحقيقية لأجور كل الحاصلين على أجور في الجهاز الاقتصادي من غير زيادة زيادات أجور وتنخفض الاستثمارات في الخارج ومعها أيضًا أسعار الرحلات إلى الخارج. ليست قوة الشيكل لعنة على الاقتصاد الإسرائيلي، فقد صمدت سويسرا لذلك بنجاح. وفي النهاية وحينما يقوى الاقتصاد تقوى العملة المحلية أيضًا وهذه نتيجة لا تُمنع ينبغي أن نباركها بدل أن نشتكي منها.