في سوق عتيقة يزيد عمرها على 100 عام منذ أن ظهرت العملات الورقية بشكلها الحديث، كانت عشرات من المحال وعدد محدود من الصرافين هم المسؤولين عن تحديد سعر صرف أهم عملات العالم وبأسعار تختلف عما تعرضه شاشات التداول في المصارف العالمية، لأسباب مختلفة.
ورغم أن هذه السوق ليست منظمة وفق المعايير العالمية، إلا أنها سوق حية وتفاعلية، وتحقق ملايين من الأرباح سنويا للعاملين فيها، نظرا للمكانة الدينية التي تتمتع بها مكة المكرمة، كونها المقصد لمئات الآلاف من الحجاج والمعتمرين سنويا، الذين يحملون معهم مئات الأنواع من العملات التي لا تتوافر في كثير من الأحيان في مكان واحد حتى في أشهر مصارف العالم.
ولأنها سوق مرتبطة بالجمهور (حجاج ومعتمرين) والباعة (الصرافين)، فإن المعطيات السياسية والاقتصادية فيها تختلف عن تلك التي ينتهجها متعاملو “وول ستريت” و”بورصة لندن”، رغم أن هناك علاقة في النهج، فقد كشفت جولة ميدانية لـ “الاقتصادية” في سوق الصرافين في مكة انهيار عدد من العملات في السوق ووقف التعامل مع بعضها لأسباب اقتصادية أحيانا وسياسية في أحيان أخرى.. التقرير التالي يتتبع خطى أهم وأشهر عملات العالم في أقدم أسواق الصرافة وأشهرها في المنطقة .. وهنا المحصلة:
العملات العربية
تتصدر العملات العربية بطبيعة الحال أهم العملات التي يتعاطى معها صرافو مكة، لأنهم يشكلون شريحة كبيرة من عدد المعتمرين والحجاج سنويا، تليهم المجموعات الآسيوية، ثم الإفريقية، فالأوروبية وأمريكا.
أكبر وأول العملات العربية التي تم نحرها في هذه السوق الفريدة من نوعها في العالم، كان الدينار الليبي، حيث أبلغ "الاقتصادية" متعاملون في القطاع أنه تم وقف التعامل بالدينار الليبي في الأشهر الأخيرة من عام 2014، بعد أن تفاقم الوضع السياسي والأمني هناك، ما دفع صرافي مكة إلى التوقف عن استقباله، فيما عمد الحجاج والمعتمرون القادمون من ليبيا إلى استبداله بالدولار عند قدومهم إلى مكة.
يقول علي سايس صاحب محل لصرف العملات في مكة، "أوقفنا التعامل بالدينار الليبي لأن المخاطر فيه ارتفعت لدرجة كبيرة، خصوصا أن البلد يعيش مرحلة سياسية واقتصادية حرجة جدا، وفقد الناس الثقة نوعا ما.. وقد أوقفت جميع محال الصرافة تبديله عدا بعض المحال الكبيرة، التي فضلت تلبية رغبة بعض العملاء والمخاطرة".
ويرى سايس أن العملات العربية هي من أكبر المتضررين في عام 2014، بعد أن كان اليورو والدولار في سنوات سابقة هما المتضرر الأكبر، مشيرا إلى أن عددا من العملات العربية أوقف تبديله مؤقتا بعد تراجع أسعار النفط وبسبب الحروب، فيما تراجعت أسعار تبديل بعضها بنحو 70 في المائة، وهي الريال اليمني والجنيه السوداني، والليرة السورية التي هوی سعر صرفها بشكل كبير.
الدينار العراقي من جانبه يعيش مرحلة من التذبذب هي الأطول بين العملات العربية، تبعا للمراحل السياسية التي خاضها العراق منذ حرب الخليج الأولى حتى اليوم، حيث يشير متعاملون في السوق إلى أن قيمة صرفه هبطت في الفترة الأخيرة وتحديدا منذ سيطرة "داعش" على مناطق في العراق بمستويات كبيرة، وبدأ هناك عزوف عن التعاطي معه من قبل الصرافين.
ومن أكثر العملات العربية تداولا ونشاطا بين الصرافين، الجنيه المصري، حيث يشهد تبديله ارتفاعا كبيرا، وحركة جيدة لكلا طرفي العملية وفق متعاملين في السوق، والطلب عليه من المعتمرين ومن السعوديين والمقيمين المصريين في السعودية.
العملات الآسيوية
متعاملون آخرون في قطاع الصرافة في مكة يقولون إن عملات عدد من الدول الآسيوية شهدت خلال العام الماضي تذبذبات حادة وغير منطقية، يتصدرها الريال الإيراني، حيث فقد نحو 17 في المائة من قيمته، بعد أن تغير سعر تبديله بين المتعاملين من ثلاثة ريالات سعودية لكل مليون ريال إيراني، إلى ريالين ونصف ريال سعودي لكل مليون ريال إيراني، وهي خسارة أعلى مما تكبده الريال الإيراني أمام الدولار الأمريكي في الأسواق الدولية بنحو 7 في المائة.
وأضافوا "الوضع تأزم أكثر بعدما أصبح المعتمرون الإيرانيون في الفترة الأخيرة يأتون بالدولار وليس الريال الإيراني لاستبداله بالريال السعودي، بل ويحرصون قبل مغادرتهم على تبديل ما تبقى من عملة سعودية معهم بالدولار وليس الريال الإيراني".
عدد من العملات الآسيوية الأخری تراجع سعر تبديله بين صرافي مكة من أهمه الروبية الإندونيسية التي هبط سعر تبديلها من 400 ريال وأكثر للمليون روبية ليصل تبديل مليون روبية إلى 307 ريالات، كما انخفض سعر صرف الليرة التركية، إلا أنها لا تزال تلقى اهتماما من قبل الصرافين.
يقول عامل الصرافة شارف بركاتي، "أكثر العملات التي يستبدلها السعوديون في المواسم هي العملات الماليزية والتركية والإندونيسية وذلك حسب وجهتهم السياحية التي سيذهبون إليها، إلا أن اعتماد الصرافين في أرباحهم يتركز علی المعتمرين والحجاج".
وبين بركاتي أن المعتمرين يتحفظون في الصرف بكميات كبيرة في الفترة الأخيرة بسبب التذبذب الذي تشهده أسعار العملات، بعد تراجع أسعار النفط وتخوفهم من أن تتعرض لمزيد من الهبوط، وقال "الأرباح تتفاوت يوما عن اليوم الآخر، ولكن الواضح أن غالبية المعتمرين يأتون بالدولار الذي لا يعد مربحا للصرافين بسبب ثبات سعر تبديله أمام الريال. ومن العملات الأكثر تداولا وتشكل مصدر ربح جيد للصرافين العملة السنغافورية وكذلك الروبية الهندية، والعملة الصينية".
العملات العالمية
أكثر المتضررة من قائمة العملات العالمية في سوق مكة للصرافة الروبل الروسي، الذي خسر كثيرا من قيمته خلال الأشهر القليلة الماضية، إلى درجة أن المعتمرين القادمين من روسيا وما حولها توقفوا عن جلب الروبل الروسي معهم، واستبدلوه بالدولار.
وهنا يقول متعاملون "صرافو السوق ليسوا بمعزل عما يجري في أسواق العملات العالمية، فهم يراقبون ما يحدث للعملة الروسية، ويتخذون احتياطاتهم من الوقوع في خسائر غير محسوبة.. وكذلك المعتمرون والحجاج أنفسهم، فهم أيضا يتحوطون بالعملة الأمريكية لضمان أن سعر صرفها أفضل الآن، ولكن رغم انهياره إلا أن هناك من يستفيد من صعوده ونزوله اليومي فيخاطر بقبول تلك العملة".
الدولار.. هو سيد العملات في سوق صرافة مكة كما هو حاله على شاشات التداول العالمية.
وهنا يقول الصراف بركاتي "الدولار أكثر العملات التي يتم تداولها بين صرافي مكة، رغم أن مكاسبة ضئيلة جدا، فسعر صرفه ثابت، كما أنه متوافر بشكل كبير، ما يجعل التكسب منه ضعيفا للغاية، لكن لا يمكن الاستغناء عنه أبدا".
اليورو والجنيه الاسترليني يأتيان ثانيا على اللائحة الدولية للعملات في أسواق مكة للصرافة، إلا أنهما الأكثر شعبية بين الصرافين، حيث يشكل ارتفاعهما وهبوطهما بمستويات عالية في أوقات زمنية قصيرة، عوامل مغرية لتحقيق أرباح جيدة، ويمكن إضافة الدولار الكندي إليهما، بحسب المتعاملين.
يقول أحد ملاك محال الصرافة "تذبذب سعر تبديل اليورو والجنيه الاسترليني، دفع صرافي مكة إلى أن يبيعوهما إلى شركات كبيرة في جدة تنفذ اتفاقات يومية يجريها صرافو مكة مع كبار صرافي جدة"، مشيرا إلى أنه رغم ذلك فإن أرباح الصرافين تراجعت بنحو 50 في المائة عن الأعوام الماضية، بسبب تراجع أعداد المعتمرين نتيجة لأعمال البناء التي تتم في الحرم، وبسبب ارتفاع إيجارات المحال بشكل كبير جدا، بعد عمليات الهدم التي تمت في محيط الحرم المكي.
حجم السوق
هذا ويقدر حجم سوق الصرافة في مكة وفق تصريحات صحافية سابقة لشيخ الصرافين بنحو 400 مليون ريال سنويا، بواقع يراوح بين 15 إلى 20 مليون ريال يوميا في العاصمة المقدسة فقط.
ويبلغ عدد الصرافين المصرح لهم بالعمل والمعتمدين من مؤسسة النقد في مكة المكرمة 11 صرافا، فيما يشترط ألا يقل رأسمال أي منهم عن مليوني ريال، وهم يقدمون خدماتهم للحجاج من ضيوف الرحمن، وغالبية تعاملهم مع الحجاج المصريين ومن دول آسيوية ومن تركيا وغيرهم.
الروبل الروسي والريال الإيراني
وصل سعر صرف الروبل الروسي والريال الإيراني أمام الدولار إلى أدنى مستوياتهما بنهاية يوم الجمعة الموافق 9 يناير 2015، حيث ارتفع الدولار أمام الروبل الروسي بنسبة 82 في المائة مقارنة بمستواه خلال نفس الفترة من عام 2014.وقد بلغت قيمة الدولار أمام الروبل الروسي بنهاية تداولات 9 يناير 2015 نحو 60.25 روبل روسي، مقارنة بنحو 30.09 روبل روسي بنهاية تداولات التاسع من يناير من العام الماضي.
أما أداء الريال الإيراني مقابل الدولار فكان أقل تضررا من الروبل الروسي، حيث هبط بنسبة 10 في المائة، لتبلغ قيمة الدولار الواحد نحو 27293 ريالا إيرانيا، مقابل 24899 ريالا إيرانيا لنفس الفترة من عام 2014.
وتزامن التراجع في أسعار العملات أمام الدولار مع أسعار النفط حيث تراجع سعر خام برنت بنحو 56 في المائة من قيمته بنهاية تداولات الجمعة الماضي، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ بداية الربع الثاني من عام 2009.