أكد وزير النفط الليبي عبدالرحمن بن يزة أخيرا ان حجم إنتاج النفط في بلاده عاد إلى مستوى يقارب ما كان عليه قبل الثورة التي أطاحت العقيد معمر القذافي. ويبلغ حجم الإنتاج الحالي 1.5 مليون برميل يوميا، أو 80 في المئة من حجم الإنتاج الليبي قبل ثورة 17 شباط (فبراير). ويكتسي هذا التصريح أهمية بالغة نظرا إلى مكانة قطاع النفط في الاقتصاد الليبي. فهذا القطاع يساهم بما يعادل 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وما يزيد عن 95 في المئة من الصادرات و90 في المئة من مجموع الإيرادات الحكومية. وهذا الحجم من إنتاج النفط الحالي، ونظرا إلى مستوى الأسعار، يجعل من عام 2012 عام تعافي الاقتصاد الليبي.
ويأتي هذا التعافي بعد الكلفة الباهظة التي تكبدها الاقتصاد الليبي من أجل إطاحة القذافي، والتي تفوق بكثير المبالغ المسجلة في حالتي تونس ومصر. فعام 2011 شهد انكماشا في الناتج المحلي الإجمالي الليبي بنسبة 60 في المئة نتيجة التوقف شبه الكلي لإنتاج النفط وتصديره خلال شهور. وانخفضت الإيرادات الحكومية وارتفع عجز الموازنة إلى مستوى قياسي فاق 40 في المئة من قيمة الناتج المحلي. بيد ان انخفاض الاستيراد والخلل الذي أصاب عملية التموين العادي للأسواق، أديا إلى نسبة تضخم تقارب 20 في المئة. ولم يسلم القطاع المصرفي الليبي من تداعيات الأزمة إذ عانى شحا كبيرا في سيولته، إثر قرار الأمم المتحدة تجميد أرصدة المصرف المركزي، وتفاقم الديون المتعثرة بعدما أصبح المدينون عاجزين عن تسديد مستحقاتهم. ويتوقع ان يشهد الناتج المحلي الإجمالي الليبي نموا بمعدل 70 في المئة هذه السنة، في حين ينتظر ان يسجل الميزان التجاري فائضا يبلغ 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وأن تنخفض الأسعار بنسبة 10 في المئة، بعد عودة حركة الاستيراد وتموين الأسواق إلى وضع شبه طبيعي.
بيد ان عجز الموازنة الحكومية، وعلى رغم تقلصه، سيبقى في المنطقة السالبة بنسبة سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويعزى ذلك إلى الزيادة السخية التي عرفتها أجور الموظفين خلال آذار (مارس) 2011، في محاولة من نظام القذافي وقف الاحتجاجات الشعبية. وتمثل أجور الموظفين في الموازنة الحكومية هذه ما يقارب 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في مقابل نصف هذه النسبة عام 2010. وخلافا لحالتي مصر وتونس اللتين تبحثان عن مصادر تمويل خارجية من أجل تنفيذ برامجهما الاقتصادية، ما قد يضطرهما إلى قبول قروض مكلفة أو مشروطة، تملك ليبيا موارد ذاتية مهمة تمكنها من تحديد أولوياتها واختيار سياساتها الاقتصادية من دون أي ضغوط خارجية. فإضافة إلى احتياط الأصول الأجنبية الذي يصل إلى 174 بليون دولار، تكاد ليبيا لا تحمل أي ديون خارجية. وفي المقابل، قد تشكل مواطن القوة التي تحظى بها ليبيا مواطن ضعف في حال فشل السلطات في استعادة الأمن والاستقرار في مختلف ربوع البلاد، وفي إدارة عملية الانتقال الديموقراطي وفق جدول زمني محدد، وبناء مؤسسات وطنية قوية تخضع إلى المراقبة والمحاسبة، وتتمتع بالفاعلية الكافية لمواجهة التحديات الأساسية التي تواجه الاقتصاد الليبي، والتي يمكن إيجازها في الآتي:
أولا، اعتماد إدارة رشيدة لإيرادات النفط تقوم على الوضوح والشفافية والمصلحة الوطنية، من أجل تفادي قيام نزاعات قبلية أو إقليمية حول موارد البلاد. وينبغي استغلال عائدات النفط المرصودة في الموازنة الحكومية كأداة إستراتجية لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية.
ثانيا، دعم النشاطات المنتجة التي تساهم في تحقيق التنويع القطاعي وفك التبعية المفرطة لقطاع واحد يخضع إلى تقلبات الأسعار في الأسواق العالمية. ويجب هنا إيجاد بيئة قانونية وإدارية صديقة للأعمال، تشجع على المبادرة الفردية، وعلى انتهاز الفرص الاستثمارية المتاحة للانتقال من اقتصاد بدائي يقوم على استخراج النفط وتوزيع الريع، إلى اقتصاد متطور يعتمد على الإنتاج والمنافسة. فليبيا تزخر بمؤهلات كبيرة لتطوير العديد من القطاعات في ميادين متعددة، خصوصا السياحة.
ثالثا، تأهيل مهارات اليد العاملة المحلية، وإيجاد الحوافز المناسبة لاستيعابها في القطاعات الإنتاجية المختلفة، خصوصا ان سياسة الأجور المرتفعة في القطاع الحكومي قد تكون عائقا أمام قدرة القطاع الخاص الخاضع إلى المنافسة لتوظيف اليد العاملة المحلية. وتقدر نسبة البطالة حسب الأرقام الرسمية ب 25 في المئة، بينما تفوق 30 في المئة في صفوف الشباب دون ال 30 سنة. وفي الوقت ذاته، تشهد ليبيا نموا سكانيا مرتفعا يصل إلى ثلاثة في المئة سنويا، ويتوقع دخول أفواج كبيرة إلى سوق العمل خلال السنوات القليلة المقبلة.
رابعا، تطوير القطاع المالي والمصرفي لدعم الاستثمار الخاص وإيجاد وظائف. فالقروض المصرفية الموجهة إلى القطاع الخاص لا تزال محدودة، ولا تتجاوز وفق أحدث الأرقام 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، كما ان الأسواق المالية بمختلف مكوناتها لا تزال في طور الإنشاء.
خامسا، السعي إلى تعبئة فرص التعاون الإقليمي والاندماج التجاري والمالي، خصوصا مع مصر ودول المغرب العربي. ويعد الاندماج الإقليمي في شمال أفريقيا من الإجابات المهمة على التحديات التي تواجه المنطقة، سواء لجهة إيجاد فرص عمل أو لجهة تحقيق تنمية متوازنة داخل الأقطار. فتحت الثورة المجال أمام بناء مستقبل مشرق، لكن الطريق المؤدية إلى هذا المستقبل تبقى محفوفة بالأخطار التي يحتاج تجاوزها إلى تحديد محكم للأولويات، من ضمن رؤية إستراتيجية تمتد ل10 سنوات، وتنتقل بالاقتصاد من الاعتماد المفرط على النفط، ومنطق توزيع الريع بين المناطق والقبائل، ورعاية قطاع خاص يعيش على العقود الحكومية، إلى اقتصاد متنوع يقوم على قطاع خاص مستقل ومبادر وتنافسي. وإذا كان طبيعيا ان تستعين ليبيا خلال هذه المرحلة بالمساعدة التقنية للمنظمات الدولية من قبيل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومكاتب الخبرة والمنتديات الفكرية، فإن الكلمة الفصل في مسألة وضع الخيارات الإستراتيجية يجب ان تبقى للشعب الليبي، عبر مشاورات وتوافقات سياسية داخل المؤسسات الدستورية.