في الوقت الذي لا يزال فيه لبنان يعاني من انفجار الميناء المميت في بيروت في آب/أغسطس، يواجه اقتصاد البلاد أزمة مستمرة ومتصاعدة.
حيث إن قيمة الليرة آخذة في الهبوط، بينما زادت نسبة التضخم السنوي إلى 120% في أغسطس/آب، وقد ينخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 25% هذا العام.
ورغم تعدد الأسباب الجذرية التي تقف وراء عدم استقرار لبنان، إلا أن استمرار الأزمة التي تشهدها البلاد الآن يرجع إلى حد كبير إلى انتعاش المؤسسات المالية غير المشروعة. حيث لا تلتزم هذه المؤسسات المالية ـ والتي تعمل في مجال تقديم القروض، أو صرف العملات، أو المدخرات غير الرسمية، أو رهن الذهب ـ بالقوانين والتشريعات مما يعرض عملائها والنظام المالي المحلي إلى قدر هائل من المخاطر.
كانت الليرة اللبنانية مرتبطة بالدولار منذ عام 1997، ولكن مع تدهور الاقتصاد لأكثر من عام، ومع القيودات التي وضعتها أغلب البنوك على سحب الدولار، ذهب الكثير من الناس إلى البحث بشكل يائس عن حلول. فالبطالة في ارتفاع مستمر، ومعظم المساعدات الدولية تتعثَّر بسبب المآزق السياسية الداخلية، وقد تؤدي الأزمة إلى هبوط أكثر من نصف سكان لبنان إلى تحت خط الفقر. وكانت آخر حالة عدم استقرار اقتصادي بهذا الحجم شهدتها البلاد كانت إبان حربها الأهلية التي دامت 15 عاماً.
ولقد استفادت المؤسسات غير المصرفية من هذا، وبما أنها تعمل خارج نطاق سيطرة المؤسسات المالية والجهات الإشرافية، فإن انتشارها الآن يعمل على تثبيط جهود تعافي لبنان.
ويمثل الافتقار إلى التشريعات التنظيمية والرقابة خطراً كبيراً على تعافي البلاد في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة توجيه الاقتصاد نحو الاستقرار.
وهذه الكيانات غير المالية غير مضطرة إلى الامتثال للوائح التي تستهدف حماية العملاء والاقتصاد ككل.
على سبيل المثال، بدأت جمعية القرض الحسن والتي على علاقة بحزب الله في وضع أجهزة الصراف الآلي في منطقة بيروت في شهري أكتوبر ونوفمبر، مما سيسمح للناس بسحب الدولار أو الليرة دون قيود.
رغم أن الفرض الحسن ليس مؤسسة مالية خاضعة للوائح التنظيمية، لكنه، وفقاً لموقع جماعة حزب الله على الإنترنت، منح قروضاً تتجاوز في مجموعها 3 مليار دولار أمريكي بنهاية عام 2019.
وأصبح القطاع المصرفي غير مستدام مع ندرة المعروض من الدولار الأمريكي في حين تُرِكَت «المؤسسات غير المصرفية» تفعل ما يحلو لها. وقد موَّل القطاع المصرفي اللبناني، والذي يعدُّ من أكبر القطاعات في العالم مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، حكومة البلاد لسنوات رغم تضخم الديون.
ولكن في السنوات الثلاث الماضية، تراجعت الودائع الدولارية واستجابت البنوك برفع أسعار الفائدة - في بعض الحالات التي تقدم أسعار فائدة سنوية تصل إلى 14٪. وأخيرًا، عجز لبنان عن سداد ديونه السيادية في مارس/ آذار، والتي بلغ مجموعها 90 مليار دولار أمريكي. حيث يعتبر الدين اللبناني البالغ حوالي 170% من الناتج المحلي الإجمالي من أعلى الديون في العالم..
ولطالما فشلت الحكومة اللبنانية في إدارة ديونها أو تبني الإصلاحات المطلوب اتخاذها بشدة. ومع ذلك ، كان معظم الناس في الماضي، لا يزالون قادرين على الاعتماد على القطاع المصرفي الضخم رغم ما به من عيوب. ولكن في ظل الأزمة الحالية، يضطر العملاء إلى اللجوء إلى سبل أخرى.
وبحلول أواخر عام 2019، ووسط الاحتجاجات المتزايدة، كانت البنوك قد فرضت حدًا أقصى على السحب مما جعل العملاء لا يحصلوا سوى على بضع مئات من الدولارات في الأسبوع.
وتسببت أزمة السيولة النقدية التي تلت ذلك في دفع السوق السوداء المتنامية بالفعل إلى زيادة قيمة الدولار مما دفع عديد من الناس في لبنان إلى البحث عن خيارات مالية غير مصرفية مثل البيوت الائتمانية طلبًا للمساعدة.
ومع تدهور القطاع المصرفي، فإن الأشخاص الذين يعانون في نهاية المطاف هم أولئك الذين يضطرون إلى التعامل مع بيوت الائتمان والمقرضين غير الرسمية أو مكاتب الصرافة.
إذ يخاطر العملاء بتعاملهم مع هذه المؤسسات المجهولة وغير الرسمية بفقدان مدخراتهم بالكامل – حيث إن تلك المؤسسات لا يقف ورائها جهات معلومة أو شيء. ولا يستطيع البنك المركزي في البلاد ولا الهيئات التنظيمية المالية أن تتدخل للمساعدة عندما يواجه العملاء الكارثة.
ولن ينمو قطاع الخدمات المالية غير المنظم في لبنان إلا في الأشهر المقبلة فقط. ولا يزال البنك المركزي في الوقت الحالي يدعم بعض السلع الأساسية مثل الوقود والإمدادات الطبية وبعض المواد الغذائية. ولكن في تقرير حديث أن البنك الدولي يتوقع أن تنضب هذه الإعانات قريبًا ، الأمر الذي سيدفع بالبلاد نحو المزيد من الخيارات غير الرسمية.
وجاء في التقرير "عندما يوقف [مصرف لبنان] دعمه للسلع المهمة، لا سيما منتجات الطاقة والأدوية والمستلزمات الغذائية، سيعود المستوردون بالكامل إلى السوق السوداء للحصول على العملة الصعبة التي يحتاجونها».
إن البنوك التقليدية التي تغطيها لوائح وأنظمة معيبة في سياق مثل لبنان على وجه الخصوص، تثير بالفعل إشكاليات - فقد سلَّط البنك الدولي الضوء على عجز الحكومة عن حماية المستهلكين كمحرك رئيسي للأزمة الحالية.
وجاء في التقرير الجديد للبنك الدولي في أواخر نوفمبر: «إن عدم اتخاذ السلطات إجراءات سياسية فعَّالة قد عرَّض الاقتصاد لكساد شاق وطويل الأمد». «ولم يتم اتخاذ قرارات بشأن مثل هذه السياسات رغم مرور عام على الأزمة الاقتصادية، ناهيك عن تنفيذها. ونتيجة لهذا فمن المرجح أن تستفحل الأزمة الاقتصادية في لبنان وتطول أكثر من غيرها من الأزمات الاقتصادية".
ولكن العملاء الذين يتعاملون مع شركات مالية غير مصرفية يواجهون ظروفاً أسوأ، حيث لا توفر القروض غير المنظمة وغير الرسمية وخيارات الادخار غير الآمنة سوى القليل من الأمان ومن الأمل في الاستقرار المالي.
ويرى العديد من العملاء أنه بدون وجود خيارات أخرى ستتبخر كامل مدخراتهم. ففي الوقت الذي أصبحت فيه شريحة كبيرة من لبنان في حاجة ماسة إلى إغاثتها، تضطر العديد من العائلات إلى المقامرة بينما تقف الجهات التنظيمية من كل ذلك موقف المتفرج.
بقلم زانا غرباني مستشار سياسي ومؤسس مشارك لمركز دبيري لأبحاث الشرق الأوسط (DCMER) ، وهي شركة استشارات سياسية تركز على شؤون الشرق الأوسط.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلف ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر وآراء موقع البوابة أو الشركات التابعة لها.