هذه الاقتصادات هي اقتصادات الأردن ولبنان، فقد أدى استمرار الأزمة السورية لأكثر من 20 شهرًا إلى امتداد تداعياتها السلبية البالغة الخطورة إلى خارج الحدود السورية لتلحق أضرارًا بالغة بهذه الاقتصادات التي تتداخل مع الاقتصاد السوري بدرجة كبيرة، وكلاهما كان يعاني أصلاً مشكلات زادت هذه التداعيات تفاقمها، وقد أدى هذا الوضع مع شيوع حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في بلدان ما يسمى بالربيع العربي إلى ارتفاع درجة عدم اليقين في معظم المنطقة العربية، ما يؤثر بشدة على مناخ الاستثمار في معظم البلدان العربية، وتضيع بذلك فرص تاريخية على هذه البلدان تتمثل في خسارتها إمكانية توظيف الفوائض النفطية الكبيرة في بلدان مجلس التعاون الخليجي التي شهدت ارتفاعات متوالية منذ 2010 في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان، والتي كان ضعفها سببًا رئيسيًا في اندلاع موجات الاحتجاجات الحادة التي أنتجت حالة الربيع العربي.
فالاقتصاد الأردني الذي يعتمد بدرجة كبيرة على المساعدات الخارجية خاصة الخليجية هو واحد من أصغر الاقتصادات العربية، ويعاني نقصًا في المياه والطاقة والموارد الطبيعية الأخرى، وترتفع فيه معدلات الفقر والبطالة والتضخم، كما يعاني من ارتفاع عجز الموازنة العامة، وقد أصبح عليه أن يعاني من العقوبات المفروضة على الاقتصاد السوري ومن الشلل الذي أصاب علاقاته الاقتصادية مع سوريا، كما أصبح عليه أن يستقبل يوميًا نحو 1500 لاجئ سوري، ليسجل عدد اللاجئين السوريين حتى شهر نوفمبر 2012 نحو 210 آلاف لاجئ، وتبلغ التكلفة اليومية لمخيم الزعتري وحده الذي يتسع لنحو 45 ألف لاجئ نحو 16 مليون دولار، ما أدخل الأردن في أزمة مالية تعد الأسوأ منذ أزمة انهيار الدينار الأردني عام 1989، ولا تكفي المبالغ الطفيفة التي وعدت بها الأمم المتحدة وهي 4 ملايين دولار، وتلك التي وافق عليها الكونجرس الأمريكي وهي 50 مليون دولار لتغطية أعباء إعاشة هذه الأعداد المتزايدة من اللاجئين. وفضلاً عن هذا الأثر المباشر للأزمة السورية، فقد توقفت تمامًا حركة السيارات التي تنقل البضائع من وإلى سوريا وعن طريقها إلى مختلف البلدان الأوروبية، وجاء هذا في وقت ذروة تصدير الخضراوات والحمضيات، مما يدفع تجار الأردن إلى التحول إلى النقل البحري ومن ثم طول الوقت وارتفاع التكلفة، فسوريا هي المعبر البري الوحيد للصادرات والواردات من وإلى شرق أوروبا، فضلاً عن كون سوريا موردًا كبيرًا للأردن في المنسوجات والملابس والمنتجات الغذائية النباتية والحيوانية، وتستوعب كميات كبيرة من الصادرات الأردنية من المنتجات والمواد الكيميائية والزراعية والأجهزة والمعدات، كما توجد منطقة تجارة حرة أردنية سورية مشتركة سجل حجم تراجع تجارتها 20% العام الماضي، ويبلغ حجم الصادرات الأردنية نحو 8 مليارات دولار، والشركاء الرئيسيون للصادرات الأردنية العراق والسعودية والإمارات وسوريا، وقد أدى تضرر العراق من تباطؤ الصادرات الأردنية إليه إلى إصداره قرارًا في 28 نوفمبر منح الأردن 100 ألف برميل نفط لمساعدتها في الخروج من الأزمة. وأيضًا جاءت الأزمة السورية لتفاقم الآثار السلبية لتداعيات ركود الاقتصاد العالمي وأحداث الربيع العربي وتكرر تفجير خط الغاز الواصل إلى الأردن من مصر وما ترتب عليه من لجوء الأردن إلى بدائل عالية التكلفة، مما أدى إلى تقلص الإيرادات وعجزها عن ملاحقة النفقات المتزايدة، حتى قارب عجز الموانة العامة 10% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 28,4 مليار دولار، وتراجع معدل نمو هذا الناتج إلى 2,5% لسنتين متتاليتين بعد أن كان قد سجل قبل ذلك معدل نمو 7,5%، وهو ما حدا بالحكومة الأردنية إلى تخفيض رواتب موظفيها بنسبة 20% وإلى رفع أسعار المشتقات النفطية بنسبة بلغت 54% مما رفع بدوره تكلفة نقل الأفراد والبضائع، واستهدفت الحكومة الأردنية من هذه الإجراءات توفير 847 مليون دولار وهو ما يصب في تخفيف عجز الموازنة، ورغم اقتران هذه الإجراءات بقرار الحكومة الأردنية تعويض الأسر الأردنية بمبلغ 420 دينارا للأسرة، فإن هذه الإجراءات أشعلت اضطرابات واحتجاجات اجتماعية كبيرة، وكأن هذه الإجراءات جاءت لتزيد من معاناة المواطن الأردني في اقتصاد ترتفع فيه معدلات التضخم السنوية إلى 6,4% وتبلغ نسبة البطالة فيه 12,3% من حجم قوة العمل البالغة 1,8 مليون شخص معظمهم يعمل في قطاع الخدمات (77,4%).
ومن المعلوم أن هذا القطاع هو عماد الاقتصاد الأردني ويشكل النسبة الكبرى من ناتجه المحلي الإجمالي؛ إذ تبلغ هذه النسبة نحو 65% في مقابل 30% للصناعة الاستخراجية والتحويلية و4,4% للزراعة، وتمثل خدمات السياحة والنقل نسبة كبيرة في إجمالي قطاعات الخدمات، وهذه الخدمات تأثرت بشدة من الأزمة السورية؛ حيث يشكل السياح السوريون ثلث إجمالي السياحة الوافدة، وسجل تباطؤ قطاع السياحة في العالم الماضي نسبة 18,4%، وأدت الأحوال المضطربة في معظم المنطقة إلى تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يتجه معظمه إلى قطاع التشييد في العقارات والمنشآت السياحية، وبلغ هذا التراجع 17,7% في 2011، كما تراجع قطاع التشييد بنسبة 5,4%.
يذكر أن الأردن يشهد تشييد عدد من المشروعات العملاقة كمشروع مرسى زايد في العقبة بقيمة 10 مليارات دولار، وهو أكبر مشروع عقاري وسياحي في الأردن تنتهي المرحلة الأولى منه في 2014، ومشروع مدينة الملك عبدالله بقيمة 5 مليارات دولار والتي تتسع لـ 40 ألف مقيم، ومشروع واحات آيلا في العقبة بقيمة 2,1 مليار دولار والذي بدأ تنفيذه في 2010، وكان لتباطؤ قطاع السياحة والصادرات المنظورة أثره الكبير في ارتفاع عجز ميزان المعاملات الجارية الذي سجل 9,5% في 2011، فإذا أضفنا إلى ذلك هبوط تحويلات العاملين بالخارج بنسبة 5,2% كان لنا أن ندرك لماذا هبطت الاحتياطيات من النقد الأجنبي بنسبة 12,2%، وهو ما أثر سلبًا على سوق الأوراق المالية التي شهدت معدلات تراجع كبيرة، وقد دعت فداحة الخسارة التي لحقت بالاقتصاد الأردني جراء الأزمة السورية إلى طلب الأردن استثناءها من العقوبات المفروضة على سوريا أو تعويضها عن الأضرار التي تلحقها نتيجة هذه العقوبات، وإلى تكرار طلب الأردن مساندة صندوق النقد الدولي الذي وافق على منح الأردن قرضًا بـ 2 مليار دولار (يبلغ حجم الدين الخارجي الأردني 7,3 مليارات دولار واحتياطيها 12,7 مليار دولار فيما يشكل الدين العام نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي) كما غدت الأردن على رأس أجندة المساعدات التي يقدمها مجلس التعاون الخليجي. وكانت القمة الخليجية 32 التي انعقدت بالرياض في ديسمبر الماضي قد أقرت خطة لدعم مشروعات تنمية في كل من الأردن والمغرب بقيمة 5 مليارات دولار على 5 سنوات، ووفقًا لما تداولته وكالات الأنباء والصحف الأردنية والسعودية مؤخرًا، فقد قررت المملكة العربية السعودية والتي تعد الداعم الأكبر للموازنة الأردنية، ولعبت دورًا كبيرًا في إنقاذها من العجز المتفاقم في السنوات الماضية، تقديم تمويل لمشاريع تنموية في الأردن بقيمة 487 مليون دولار، كما أنه جاري الاتفاق على حزمة مشاريع أخرى بقيمة 300 مليون دولار، ودفع 135 مليون دولار على حساب هذه المشاريع قبل نهاية العام الحالي والباقي في موازنة العام المقبل، كما قررت السعودية إيداع 250 مليون دولار في البنك المركزي الأردني لينفق منها على المشروعات في 2013، يذكر أن السعودية كانت قد قدمت دعمًا للأردن في 2011 بقيمة 1,4 مليار دولار، وأودعت الكويت هذا العام أيضًا في البنك المركزي الأردني 250 مليون دولار وجاري الاتفاق مع صندوق الكويت للتنمية لتمويل مشروعات تنموية بقيمة 125 مليون دولار قبل نهاية العام الحالي، كما تم التوقيع على مذكرة تفاهم مع قطر لتقديمها 1,25 مليار دولار لتمويل مشروعات في السنوات الخمس القادمة، وكان وزير التخطيط الأردني قد توقع في يونيو الماضي أن يصل إجمالي المساعدات التي يتلقاها الأردن في 2012 من المصادر المختلفة وعلى رأسها مجلس التعاون الخليجي 2,5 مليار دولار، وفي سبتمبر 2012 ناقش وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي الخطة الاقتصادية الخمسية لصالح الأردن والمغرب في إطار التحضير للقمة الخليجية التي تستقبلها المنامة.
وإذا كانت المساعدات الخليجية للأردن واضحة في درء تداعيات الأزمة السورية على هذا البلد الشقيق، فلم يكن لبنان الذي دأب على الخروج من أزمة ليدخل في أزمة أخرى، والذي لم يلملم بعد جراحه التي أحدثتها حرب أهلية طويلة وعدوان إسرائيلي مستمر، بأسعد حالاً من الأردن، بعد أن بلغت نسبة الدين العام 137% من الناتج المحلي الإجمالي، وعجز موازنته 9,8% من هذا الناتج، وبعد أن بلغت البطالة بين الشباب 22,1 من إجمالي قوة عاملة تبلغ 1,5 مليون شخص، فسوريا هي الشريك التجاري الأكبر في الصادرات اللبنانية التي يبلغ حجمها 5,4 مليارات دولار، حيث تستقبل سوريا 26,8% من هذه الصادرات، تليها دول تستقبل وارداتها من لبنان عن طريق سوريا وهي الإمارات (13,5% من إجمالي الصادرات اللبنانية) والسعودية (6,4%) وقطر (4,1%)، كما أن سوريا هي ثاني أكبر الموردين للبنان، فمن بين إجمالي واردات لبنان التي تبلغ 20,9 مليار دولار تبلغ نسبة الواردات من سوريا 10,3%، فالأزمة السورية أغلقت طرق عبور المنتجات من لبنان وإليه، ما رفع نسبة عجز الميزان التجاري إلى 34% من الناتج المحلي الإجمالي، وأدت هذه الأزمة أيضًا إلى تباطؤ النشاط السياحي وجمود القطاع العقاري، ومحصلة هذا كله تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1,5%، وأدى ارتفاع معدلات التضخم إلى ضغوط على الحكومة اللبنانية لرفع الأجور، وهو ما أدى إلى زيادة الإنفاق الحكومي وزيادة عجز الموازنة. فالأزمة السورية إذن زادت من معاناة اقتصاد هو متأزم أصلاً بسبب ما يشهده من عدم استقرار سياسي طال مداه، فضلاً عن استشراء الفساد ومعاناة مناخ الاستثمار من التعقيدات البيروقراطية وطول الإجراءات الجمركية وارتفاع الضرائب، وتتوقع مفوضية إغاثة اللاجئين أن لبنان سيكون مع نهاية العام الحالي الدولة الأولى في استقبال النازحين السوريين، وتتوقع أن يصل عددهم إلى قرابة 400 ألف مع احتمال نزوح أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا إلى لبنان، ومن المعلوم أن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد خدمات بالأساس؛ إذ تشكل الخدمات ومعظمها سياحة ومصارف 75,7% من ناتجه المحلي الإجمالي في مقابل 19,7% للصناعة و4,6% للزراعة، واقتصاد الخدمات شديد الحساسية للبيئة السياسية من حوله، ولم يكن في مقدور الحكومة اللبنانية في ضوء تردي الأوضاع الاقتصادية وبعد أن أصبحت مثقلة بالديون أن تلبي مطالب الإصلاح التي طلبها المانحون الدوليون في مؤتمر باريس 2007 في أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان، وإذا كانت تحويلات العاملين في الخارج التي تمثل نحو 20% من الاقتصاد اللبناني وتبلغ أكثر من 8 مليارات دولار سنويًا هي ما يخفف من معاناة هذا الاقتصاد، فإن ترك الآثار السلبية للأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني لتداعياتها يأتي بنتائج سياسية تزيد الوضع اللبناني تعقيدًا، بل تجعل الباب مفتوحًا لتمدد النفوذ الإيراني عبر حزب الله.
وإذا كان مجلس التعاون الخليجي قد وضع دعم الاقتصاد الأردني في بؤرة اهتمامه فإن هذا الاهتمام منشود منه أن يتمدد إلى الاقتصاد اللبناني درءًا لهذه التداعيات السلبية، خاصة وأن الدعم الخليجي كان عونًا كبيرًا للبنان في أزماته السابقة، ويعد هذا الدعم أحد أهم جوانب احتواء الأزمة السورية، والاهتمام الخليجي بالتخفيف من آثار تردي الأوضاع الاقتصادية في لبنان ليس فقط من خلال الدعم المالي المباشر كما حدث في الحالة الأردنية، ولكن من خلال التحرك مع المانحين الدوليين للتخفيف من شروطهم وإعفاء لبنان من بعض أعباء الدين الخارجي أسوة مع ما يجري اتباعه مع الاقتصادات الأوروبية المدينة.