"الأسرى ليسوا أرقاما، بل هم مبدعون"، هو الإهداء الذي وقعه الشاعر الفلسطيني الأسير باسم خندقجي، في الصفحة الأولى من روايته "نرجس العزلة"، رغم وجوده في سجون الاحتلال الإسرائيلي، لتنطلق الرواية في رحلة سفر طويلة من يديه إلى مدينة نابلس في الضفة الغربية، وصولا إلى يدي في القاهرة.
يتملك المرء شغف غريب لقراءة مثل هذه الأعمال الروائية القادمة من الأرض المقدسة، خاصة حين تبحث عن كاتبها فتجده أسير فلسطيني يقبع في سجون الاحتلال، حيث يقضي حكم بثلاث مؤبدات، أي إنه سيقضي عمره بالكامل في وجه عدوه الناطق بالعبرية، ويزيد الشغف حين تفتح أولى صفحات الرواية، فتجد أن كاتبها قد ترك لك توقيعه عليها، ليذكرك أنه رغم قيود يديه، إلا أن كلماته تنعم بالحرية وتستطيع الوصول إليك.
لا إراديًا، ستعمل يداك على البحث عن كاتب الرواية وشاعرها على محركات البحث الإلكترونية، لتتعرف على هوية ذلك الأسير الذي ترك توقيعه لك بدون معرفة مسبقة بينك وبينه، فتجد أنه عقب إصدار المحكمة الإسرائيلية حكم عليه عام ٢٠٠٥، وقف أمام القاضي وقال:"أنا أحد أبناء هذا الجيل الذي عاش في كنف الانتفاضة الأولى، وتوقّفت أحلامه وطموحاته عن النموّ في الانتفاضة الثانية، حين قتلتم بأفكاركم الوحشيّة، التي تتقن فنّ القتل وإراقة الدماء، ذلك الإنسان البريء في داخلي، حين رأيت بأمّ عيني الضحّيّة التي تحوّلت إلى وحش، لقد قتلتم في داخلي ذلك الإنسان، حين أفرغ أحد جنودكم مخزن بندقيّته في جسد طفلة في غزّة اسمها إيمان".
الجرأة نفسها يمارسها باسم في روايته ذات الـ ١٦٩ صفحة، فأولى ايجابيات العمل هي أنها خرجت عن المألوف الأدبي الفلسطيني، الذي يصور الفلسطيني على أنه شخص "سوبر مان" لا يخطئ، ويكشف أنه شعب له ما له وعليه ما عليه، مثله مثل الأمم جمعاء، فيتجرأ على الساحة الأدبية الفلسطينية، ليؤكد وجود أشخاص فيها يتاجرون ببضاعاتهم باسم القضية ويستغلونها في الترويج لأعمالهم وكتاباتهم.
وبسخرية لاذعة وأسلوب شاعر يتطرق إلى مهزلة أوسلو والرهانات الخاسرة على طاولة المفاوضات، وحلم الوطن الذي لايمكن انتزاعه سوى بالمقاونة والسلاح، نظرا لطبيعة العدو الذي تواجهه القضية، يجوب باسم في جميع تلك القضايا بخفة، كما لو أنه يطرق على وجع كل فلسطيني يتابع تدهور قضيته وضياعها على طاولات المباحثات، وكيف نزلت مأساة الاحتراب والاقتتال الفلسطيني الداخلي، على قلوب الناس التي حسبها مقاومة المحتل، ولا ينقصها حرب داخلية.
لغة الرواية شاعريّة وانسيابية، ربما هي نقطة إيجابية وسلبية في الوقت نفسه، وتتحدد على حسب نوع قارئ الرواية نفسه، فلو أن القارئ يستمتع باللغة والوصف الشاعري في السرد، سيجد ضالته في "نرجس العزلة"، أما لو أنه من نوع القارئ الباحث عن المتعة والتشويق في المجمل، فلن يجد سوى القليل منه بين صفحات الرواية، حيث تدور أحداث الرواية حول شاعر يقضى عزلة عن المجتمع والأقارب في منزله، ويسترجع جميع ذكرياته وتجاربه العاطفية التي تتأرجح بين امرأتين.
على الرغم من ندرة الأحداث في الرواية، إلا أنها تحمل حوارات عميقة بين الشاعر المنعزل ونفسه، ومن خلال تلك الحوارات يعكس الضوء على الظواهر المجتمعية المتحكمة في المجتمع الفلسطيني الشرقي والعربي ككل، ومدى القيود التي يفرضها المجتمع على المرأة.
لوهلة يمكنك الظن، أن باسم يؤرخ سيرة ذاتية لنفسه، أو انها سيرة فلسفية لأفكاره التي تدور في عقله ويواجه بها نفسه، خاصة مع التشابه بين شخصية بطل الرواية وباسم نفسه.
"ماذا لو لم يكن هناك احتلال!".. سؤال نادرا ما يتم طرحه، فهل كان باسم سيكون شاعرا، أو سيعشق الفلسطينيين مدنهم المسلوبة أكثر من مخيماتهم وقراهم المهجرين إليها، وعلى الرغم من أن باسم يرى في الاحتلال سببا في جميع الكوارث الفلسطينية والشخصية، إلا أنه شكر الاحتلال الذي لولاه لما أصبح شاعرا، وما أحب حيفا أكثر من نابلس.