جـدار الغيتـو…… إلى من عاش الهـولـوكوسـت

تاريخ النشر: 26 يناير 2004 - 02:00 GMT
البوابة
البوابة

للحظة واحدة ، تشعر وأنت تنظر إلى هذا الجدار الممتد في العمق الفلسطيني ، أن مساحة الأمل تتضاءل حيث تتحدد الحركة وتعد عليك أنفاسك ، كتل إسمنتية والى جانبها كتل بشرية تقف في مسار طويل في تزاحم أشبه بيوم القيامة في انتظار البحث عن لقمة العيش من اجل الحياة ، غير مسموح لك حمل أي شيء سوى رغبة الحياة وأي حياة ؟! حينما يمنع الطعام والعلاج ، وتحدد لك الحركة بساعاتها بل دقائقها المعدودة فالجدار دونك والمستقبل تراه يتضاءل في عيون طفلك الذي لم تشفع له خطواته القصيرة من تجاوز البوابة في الثانية المحددة للعبور ، ليس لك الحق في الشكوى لان البندقية أصبحت مصوبة نحو عينيك !! سيمفونية قصيرة من معاناة الفلسطيني اليومية . 

يسمح إدخال الطعام … ممنوع من الحركة خارج المنطقة المحددة لك … ممنوع من الخروج عندما تضرب عقارب الساعة معلنة الزمن الملعون عند السادسة مساء ، عبارات وذكريات استمعت لها من يهود بولنديين التقيت بهم على أطلال معسكرات الاعتقال النازي في ثمانينيات القرن الماضي ، كانت الكارثة ملامحهم والمأساة ذكرياتهم حول معسكرات الاعتقال النازي على الأراضي البولندية ، هم الأرقام تتحرك على أقدام ، يمدون لك الذراع دلالة الحياة كشهود على زمن انتهكت فيه حرية الإنسان . 

الكاتب الإسرائيلي المعروف رومان فريستر ، أحد الناجين من تلك الجريمة ، التقيت به هنا في غزه عندما كان الحلم بالمستقبل متاحا لنا كطرفين ، قدم لي حينها كتابه " صـوره " الذي تحدث فيه عن معاناته الشخصية في معسكر الاعتقال ، يقول في مستهله : 

( …حتى الثامنة مساء كان يمكن لك التحرك داخل المخيم … ) كان يتحدث عن معسكر ستاراخوفيتسي الذي أقيم على ارض المدينة البولندية التي سمي معسكر الاعتقال الهتلري باسمها . 

أما جيتو وارسو فقد قرأته وعشت انتفاضته على فراش وبين ذكريات من عاشوه ولم أكن بحاجة لقراءة بعض دعاة التطرف الإسرائيلي أو رسالة عدنه شبتاي زوجة الكاتب الإسرائيلي يعقوب شبتاي لأعلم بأن اليهود (… كانوا يساقون كالأغنام إلى المسلخ ، يجب أن لا نصمت … ) كلمات شبتاي هذه سمعتها من أفواه الذين عاشوا المأساة … كنا نساق كالأغنام إلى حظيرة " اومشلاك بلاتز " وكانت الشرطة اليهودية تحرسنا ، ومع صعودنا القاطرة إلى أحد معسكرات الموت كنا نودع بعضنا بالنظرات لأننا نعرف ما كان ينتظرنا . كانت حدود المخيم معروفه ، وكانت ساعات الحياة معدودة كلقمة الطعام . 

صورتكم التي كانت أيها السادة هي حاضرنا ، دققوا جيدا في حياة الفلسطيني ومعاناته ، في الغيتوهات التى نشرتها عقلية شارون على طول أرضنا وعرضها بحدود الجدار الممتد ، لترسم معالم الجيتوهات الجديدة ، وتضع حدا لأملنا وأملكم في المستقبل الذي نريد ، لكن عدنه شبتاي يا ساده تريدنا أن نساق إلى المسلخ ، ويريد شارون وقيادات جيشه من سلطتنا وشرطتها الفلسطينية أن تكون بموقع الشرطة اليهودية ، أو كما قال البروفيسور باروخ كيمبيرلنغ : يريدون تحويل الشرطة الفلسطينية إلى مقاول ثانوي للمصالح الإسرائيلية . 

عندما انتفض اليهود في جيتو وارسو ، ثاروا على الظلم والقتل بسلاحهم المحدود والمعدود ، فليس من المنطقي أن تقبل وأنت الإنسان العيش معزولا عن العالم ، تحدد لك ساعات الحياة والموت ، أن تجبر على الشعور بأنك يهودي ولست إنسانا ، أن تغلق دونك الحياة في إطار الكيلو متر المربع المحدد بالأسلاك الشائكة والجدران الإسمنتية ، أن تخرج لشراء خبزك في ساعة محددة من بوابة الإذلال ، فهل مات الجيتو ؟! دققوا أيها السادة يا من عشتم المأساة في تصرفات وأوامر جيشكم ، انظروا لحياة الفلسطيني ومعاناته ، كيف يتحرك ويعمل ويعيش بين الأسلاك الشائكة والجدران الإسمنتية ؟ وكيف يسترق الدقائق من الموت ليعطي الأمل لأبنائه بالحياة لأنه فلسطيني إنسان ويحب الحياة . 

من باب المقارنة في الحق بالحياة ، عمر الاحتلال الجاثم على صدرنا يقارب العقود الأربعة ونكبتنا تقارب العقود الستة ، كانت ملامحها في اوشفينتشيم وميدانك واومشلاك بلاتز وجيتو وارسو ، وفي بيان آبا كوبنر ليهود ليتوانيا عام 1942 حينما دعاهم للانتفاض في وجه القاتل . 

مخيمنا الفلسطيني تحول إلى معسكر اعتقال محاط بالأسلاك والجدران ، وزادت معاناتنا المستعمرات والمستعمرين المتعطشين للقتل ، ملامحهم تراها كل يوم في شوارعنا وحقولنا ، في قرانا وعلى شوارع "الفصل العنصري "بين مدننا ، حارسهم جندي الاحتلال الجاثم على أرضنا بغطرسة القوة ، بالأمس القريب شاهدتموهم يمارسون القتل في قرى نابلس واليوم في الخليل ورام الله وغدا في مكان آخر ، بالأمس أيضا استمعتم لصيحاتهم أمام منزل شارون يهددون ويتوعدون . 

في الضفة أيها السادة يا من عشتم الهولوكوست يوجد ثمان جيتوهات وفي غزة ثلاث ، والفلسطيني ممنوع من الحركة ومن الحياة ، بالأمس أيضا منعت حكومتكم فئة الأعمار من 16 إلى 45 عاما من المغادرة والحركة ، أدعوكم لمشاهدة الأبواب الحديدية على بوابات القرى والمدن تحيطها الدبابات ، هناك يعتقل شبابنا وهناك يعيش بعضهم الثواني الأخيرة من حياتهم أيضا ، ومن تكتب له الحياة شاهدو الأرقام الموشومة على أذرعهم من قبل جنودكم ، مؤكد أنكم ترون بعض مشاهدها المخففة عبر وسائل إعلامكم ، على طرقاتنا يسير المستعمرون ويمنع الفلسطيني ، هؤلاء حرموكم وحرمونا الحياة الطبيعية في وطننا ، قارنوا فقط أوامر المنع التي عشتموها على جلدتكم ونعيشها من دمنا ولحمنا وحياتنا ، أليس من حقنا مقاومة قتلنا والدفاع عن حياتنا ومستقبلنا ، هل تريدونا أن نساق كالخراف إلى المسلخ ؟!. 

أيها الكبار والصغار الإسرائيليون وان شئتم اليهود أينما كنتم ، مأساتكم التي كانت هي مأساتنا التي تصنعوها بسلاح جنودكم وعقلية سياسييكم وصمتكم ، عيشوا ماضيكم وحاضركم ومستقبلكم ، ودعونا نعيش حاضرنا ومستقبلنا على أرضنا ، أخرجوا المحتل من أرضنا ومن حياتنا وحياتكم ، فلن ندفع نحو المسلخ ولن نكون مقاولا ثانويا ولا رئيسا لمصالح المحتل ، ودعونا نفكر معا في مستقبلنا . 

عذرا يا عزيزي فريستر صورتك التي كانت صورتنا اليوم ، تعال نشاهد معا تلك المشاهد لنضع حدا لإراقة الدماء والمعاناة ، شكرا لك بروفيسور باروخ كيمبرلينغ ، شكرا لك أيها اليهودي الطيب وشكرا لكل صوت إسرائيلي أو يهودي ارتفع في وجه هذا الاحتلال البشع لأرضنا وحياتنا ومستقبلنا ، ليؤكد أن هناك حياة تستحق العمل . 

 

د.محمـود خليفـة 

القائم بأعمال  

مدير عام السياسات والتطوير في وزارة الاعلام الفلسطينية