تحتفل البشرية في العاشر من كانون الأول من كل عام باليوم العالمي لحقوق الإنسان، وهو اليوم الذي صدر فيه عام 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الوثيقة الأساسية التي أجمعت عليها أمم الأرض وشعوبها، على إختلاف عقائدها وقومياتها ودياناتها وثقافاتها، بإعتبارها تُقرّ الحقوق العامة والأساسية لكل إنسان مهما كان لونه أو جنسه أو عرقه أو ديانته أو عقيدته.
قطعت البشرية منذ ذلك التاريخ شوطاً هاماً في تطوير حقوق الإنسان وتفصيلها في إتفاقيات وصكوك تلتزم بها معظم دول العالم بدرجات متفاوتة، كما أرست قواعد وآليات لمراقبة مدى إحترام الحقوق المنصوص عليها في تلك الإتفاقيات.
بالرغم من ذلك، يُشير الواقع الحالي ـ بعد 66 سنة على صدور الإعلان الشهير ـ إلى تفلّت ومراوغة وتحايل عدد كبير من الدول التي لا تزال حكوماتها ترتكب إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تعلن فيه رسمياً إحترامها لتلك الحقوق.
إن أحد الأخطار الكبرى التي تهدّد حقوق البشر اليوم هو النفاق وإزدواجية المعايير اللذين تمارسهما الدول الكبرى والتي تدّعي ـ ويا للعجب ـ حرصها الكبير على تلك الحقوق ! وأبرز مثال على ذلك موقف تلك الدول إزاء ما يتعرض له يومياً الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة من إنتهاكات فظيعة على جميع الأصعدة دون أن يرفّ جفنٌ لتلك الدول.
أما في الوطن العربي، فإن الحالة العامة لحقوق الإنسان سيئة، خصوصاً بعد أن أصبح أول وأبسط حق وهو "الحق في الحياة" يتعرض يومياً إلى الإنتهاك الصارخ، ليس فقط من قبل حكومات، بل ومن قبل منظمات إرهابية تتدثّر برداء الدين. ويجُرّ هذا الإنتهاك ورائه التشريد واللجوء والجوع والحرمان للملايين من المواطنين العرب الأبرياء. إن السبب الرئيس في الوصول إلى هذه الحالة المأساوية هو غياب دور الشعوب العربية في بناء مجتمعاتها الديمقراطية وقمعها ومصادرة حرياتها عبر عقود طويلة على يد أنظمة ينخرها الفساد وتنتهج سياسات أدت إلى إفقار شرائح واسعة من المجتمع. ولذلك ليس بعيداً عن الحقيقة القول بأن الأرهاب المستشري، بقدر ما هو مدعوم من قوى خارجية فهو في الوقت نفسه من "مخرجات" سياسات أنظمة القمع والإستبداد. وبالإجمال، فإن أوضاع حقوق الإنسان العربي تدعو إلى القلق الشديد، وهو أمر يجب أن تتوقف أمامه القمة العربية المقرر عقدها في شباط 2015.
وفي الأردن، لا تزال أوضاع حقوق الإنسان تحتاج إلى جهود مضنية من أجل أن ترتقي إلى المستوى الذي يُبشّر به المسؤولون بين الحين والآخر. صحيحٌ بأن لجنة قد تشكّلت في أيلول 2013 لدراسة توصيات تقارير المركز الوطني لحقوق الإنسان، وأخرى تشكّلت منتصف هذا العام لوضع خطة لتطوير حقوق الإنسان، إلاّ أن لا آثار ملموسة أو عملية حتى الآن لهذه اللجان.
لقد جاء التقرير السنوي للمركز الوطني لحقوق الإنسان والذي صدر قبل أسبوع ليُظهر بوضوح بأن عشرات التوصيات والإقتراحات، والتي تتكرّر منذ نحو عشر سنوات في تقارير المركز السابقة، لا تزال تعاني من التجاهل والإهمال الحكوميين. ولا يُغيّر تشكيل اللجان من هذه الحقيقة؛ فقد جاء الرد الحكومي قبل عام خلال المراجعة الدورية الشاملة في مجلس حقوق الإنسان في جنيف ـ على سبيل المثال ـ ليؤكد بأن مواقف الحكومة إزاء بعض المسائل المفصلية الهامة في حقوق الإنسان ثابتة ولا تخضع لأية مراجعة مهما اشتدّت المطالبة المحليّة والدولية بمراجعتها.
لقد باتت الحاجة ملحّة للقيام بمراجعة شاملة لكافة التشريعات والقوانين والأنظمة المعمول بها، وفحص مدى إنسجامها مع الإتفاقيات والصكوك الدولية التي صادقت عليها الدولة الأردنية، والعمل على إدخال التعديلات اللازمة في ضوء تلك المراجعة.
على صعيد آخر، تلاحظ الجمعية الأردنية لحقوق الإنسان تراجعاً واضحاً في واقع ومكتسبات المرأة الأردنية منذ أكثر من عام ؛ ومن بين الأمثلة العديدة التي يمكن أن تساق في هذا المجال، نتائج إنتخابات مجالس أمناء الجامعات التي جرت قبل أسبوعين، حيث أن النسبة التي حصلت عليها المرأة متدنية جداً ولا تعكس نسبة تمثيلها الحقيقية ولا مدى التقدم الذي أحرزته المرأة في هذا القطاع. والمثال الآخر هو ما شهدته قاعة مجلس النواب مؤخراً بحيث أصبح طرفة يتندّر بها الأردنيون. يُعزى هذا التراجع إلى عدم تطوير القوانين التي تصون حقوق المرأة وتُعلي من مكانتها في المجتمع، وكذلك إلى تراجع دور المنظمات النسائية والأهلية عموماً في المجتمع.
لقد وزّعت الحكومة يوم الأحد الماضي ـ أي قبل 48 ساعة من حلول اليوم العالمي لحقوق الإنسان ـ تقريراً مطوّلاً يُفصّل ما قامت به الوزارات المختلفة لصيانة حقوق الإنسان. ومع أنه من المبكّر جداً تقييم التقرير بصورة موضوعية والحكم على مضمونه، إلاّ أن الجمعية الأردنية لحقوق الإنسان ترحّب مع ذلك بأية جهود حكومية جادة لمأسسة ومتابعة قضايا حقوق الإنسان، وبخاصة معالجة الإنتهاكات لهذه الحقوق بالسرعة والكفاءة الضروريتين، والرد على الشكاوى التي تصل إلى الحكومة ودوائرها من المنظمات الأهلية الأردنية لحقوق الإنسان والمركز الوطني لحقوق الإنسان ولجنة الحريات العامة وحقوق المواطنين في مجلسي النواب والأعيان، والعمل على ضم تلك المنظمات الأهلية إلى عضوية اللجنة المكلّفة بوضع خطة لتطوير حقوق الإنسان في المملكة. تدعو الجمعية أيضاً إلى صدور تعليماتٍ مُلزمِة إلى الوزارات والدوائر الحكومية من أجل تطبيق ما جاء في التقرير الحكومي المذكور.
صحيحٌ بأن الوضع الإقليمي معقد، ويضغطُ تدفّقُ اللاجئين بأعداد كبيرة على السياسات الحكومية، إلاّ أن ذلك لا يحول دون إتخاذ خطوات جادة لإحداث تغيير حقيقي في وضعية الحقوق المدنية والسياسية للإنسان الأردني ؛ أهم هذه الخطوات :
1) وقفُ سياسةِ كسر الإضرابات العمالية والنقابية والمطلبية بالقوة، المنتهجة منذ أكثر من عام ونصف ؛ فهذه السياسة ليست فقط مخالفة لحقوق المواطنين والدستور، بل هي تمهّد الطريق ـ عملياً ـ لإتباع طريق التطرف والعنف من أجل تحقيق المطالب، وهو ما لا يرغب فيه أي عاقل حريص على الوطن والمصلحة العامة. إن الحوار والتفاوض هما الأسلوبان الفضليين لحل النزاعات العمالية وغير العمالية.
2) تعديل القوانين ذات العلاقة لضمان عدم الإفلات من العقاب لأولئك الذين يمارسون التعذيب أو المسؤولين عنه، وضمان صرف تعويض للضحايا التي يثبت تعرّضها للتعذيب. جاءت تعديلات الدستور (2011) لتؤكد عدم جواز التعذيب بأي شكل من الأشكال، وقبل ذلك صادق الأردن على الإتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، ومع ذلك فإن تقارير ومعلومات وشكاوى عديدة تؤكد إستمرار وجوده في بعض المراكز الأمنية.
3) تعديل القوانين ذات العلاقة والتي تتعلق بإجراءات ما قبل المحاكمة، وهي الفترة التي تشهد إنتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان. لقد كشفت دراسة مقارنة صدرت مؤخراً بأن العديد من البنود في تلك القوانين لا تنسجم مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادق الأردن عليه ونشره في جريدته الرسمية منذ سنوات ؛
4) تعديل قانون محكمة أمن الدولة بحيث يتماشى مع المواد 27 و97 و101 من الدستور الأردني (محاكمة المدنيين أمام محاكم مدنية وإستقلالية القضاء والقضاة)، وبحيث يعيّن قضاتها بموجب قرار صادر عن المجلس القضائي تأكيداً لمبدأ الفصل بين السلطات.
5) إلغاء قانوني "منع الجرائم" و "منع الإرهاب" اللذين يتعارضان مع أبسط قواعد حقوق الإنسان، واللذين سبق وأن طالبت المنظمات الأهلية الأردنية لحقوق الإنسان والمركز الوطني لحقوق الإنسان والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان بإلغائهما منذ سنوات.
إن الصعوبات والعقبات التي تصطدم بها حقوق الإنسان يومياً على الأصعدة المختلفة لا تفت من عضد منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، بل تزيدها تصميماً وعزيمة؛ فالوعي المتزايد بهذه الحقوق وإدراك شعوب كثيرة اليوم بأن حياتها ومستقبلها يتوقفان على مدى ما تتمتع به من حقوق يجعل من النضال في سبيل هذه الحقوق مهمة يومية لقطاعات واسعة من البشر، وهو ما يتفق مع شعار الأمم المتحدة المخصص هذا العام لهذا اليوم " 365 يوماً من أجل حقوق الإنسان".
الجمعية الأردنية لحقوق الإنسان
الجمعية : "تراجع الحقوق على الصعيد العربي يدعو إلى القلق الشديد"