زوارة الليبية... مدينة بربرية تنطلق إلى الحياة

تاريخ النشر: 27 مايو 2013 - 11:07 GMT
زوارة الليبية... مدينة بربرية تنطلق إلى الحياة
زوارة الليبية... مدينة بربرية تنطلق إلى الحياة

 

بعد عامين من الإطاحة بنظام العقيد الليبي معمر القذافي، لا تزال العلاقات بين معارضيه ومن أيّدوه متوترة إلى حد نشوب مناوشات مسلحة بين الفريقين، في مناطق مختلفة من ليبيا. ويعيش سكان مدينة زوارة في حالة من القلق والتوتر بسبب العلاقات المشحونة مع القبائل العربية التي كانت تساند القذافي.

وكما هو حال بقية المدن الليبية تبدو آثار الدمار واضحة في أحياء زوارة، التي تسكنها أغلبية من البربر، إلا أن جهود إعادة الإعمار لم تتوقف منذ عامين، وأعيد تشغيل المطار قبل أسابيع.

ونظراً للعداوة التي نشأت بين أنصار القذافي ومعارضيه فإن المرحلة ما بعد القذافي، رسمت حدوداً بين الفريقين، لا يجوز لأحد أن يتخطاها دون إذن. ويقول رئيس المجلس المحلي في المدينة، عادل خالص، الذي انتخب في ‬2011، إن «الأمور تحتاج إلى بعض الوقت، كي تعود الحياة إلى سابق عهدها».

ويشير رجل الأعمال الثري إلى أن نصف سكان زوارة، البالغ عددهم نحو ‬40 ألف نسمة، كانوا قد نزحوا إلى تونس خلال هجوم كتائب القذافي.

تعد زوارة، التي ينحدر معظم سكانها من قبائل نفوسة المنتسبة لأمازيغ الهوارة، حاضرة لعدد من القرى التي ينسب أغلب السكان إليها حالياً، كما أن هناك من ينسب هؤلاء السكان إلى الإقريطيين اليونانيين ضمن المجموعات البربرية التي انتشرت في شمال إفريقيا منذ قرون.

وتقول بعض الروايات إن سكان المدينة الأمازيغية، التي تبعد نحو ‬60 كيلومتراً عن الحدود التونسية مع ليبيا، قد خاضوا أهم المعارك الليبية في التاريخ الحديث، وتتمثل في معركة سيدي سعيد ضد الاستعمار الإيطالي في موقعة أبي كماش قبالة جزيرة فروة.

في حين وجدت قبيلة زواغة وعمرت مدينة صبراتة بجانب قبائل من الأمازيغ من لواتة ونفوسة وزوارة. يشار إلى أن ميناءها المختص بالصيد البحري والتجارة قد أسس في العهد التركي، ثم دمرته في الحرب العالمية الثانية القوات الإيطالية، وبعد الاستقلال تم ترميمه، كما أنشأت إيطاليا خطاً للسكة الحديدية يمتد من زوارة إلى طرابلس الغرب.

وسكن نحو ‬40 ألف نسمة المدينة الأمازيغية، وقد فرّ نصفهم أثناء الثورة الليبية، ويأمل الأهالي بناء مدينة حديثة وترميم ما هدمته الحرب، معتمدين في ذلك على مواردهم الخاصة ومساعدات بسيطة من الحكومة في طرابلس.

 تقع زوارة على بعد ‬120 كيلومتراً غربي طرابلس، وهي المدينة البربرية الوحيدة على طول الساحل التي لا تزال تعيش في حالة حرب مع المدن القريبة، مثل الجميل ورغدالين. ويعود تاريخ المدينة التي تعتمد على الصيد البحري والزراعة والتجارة وصناعة الملح والجير والجبس إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وكان اسمها في ذلك العهد «كاساس»، وكانت تشتهر بتصدير الملح.

وعلى الرغم من أن الطريق السريع المؤدي الى العاصمة مفتوح للحركة، إلا أن أهالي زوارة تركوا أراضيهم ومزارعهم الموجودة على طرفي الطريق واستقروا في المدينة. وشهدت هذه المنطقة معارك طاحنة قبيل سقوط القذافي، وسقط أكثر من ‬55 شاباً وجرح ‬700 آخرون، ويمكن رؤية صورهم في كل مكان.

وتم تحرير المدينة في منتصف أغسطس ‬2011، ولا تزال آثار المعارك واضحة على الجدران المرصعة بآثار الرصاص، والبنايات المدمرة بالقنابل والقذائف، ولا تزال بقايا القوارب التي استهدفها حلف الأطلسي في ميناء المدينة. وتقول روايات رسمية إن سكان المدينة الأمازيغية التي تبعد عشرات الكيلومترات عن الحدود التونسية قد خاضوا أهم المعارك الليبية في التاريخ الحديث، وتتمثل في معركة «سيدي سعيد» ضد الاستعمار الإيطالي في موقعة أبي كماش قبالة جزيرة فروة.

عاش سكان زوارة معزولين، عن بقية المدن والبلدات الليبية، لفترة طويلة، وعرفوا بحفاظهم الشديد على هويتهم إلى حد رفضهم الاختلاط بالقبائل المجاورة، والتي هي في مستوى دونهم. ويقول معارض فرّ من ليبيا عام ‬1979، وعاش في فرنسا لسنوات طويلة، يدعى عثمان بن ساسي: «بدأ أول صراع مع القذافي عندما أراد الزواج من فتاة من زوارة، ورفض أهالي المدينة ذلك». وعاد الزعيم الليبي الراحل إلى المدينة في ‬2010، عندما كان يبحث عن ابنه الساعدي، الذي فر إلى النيجر بعد سقوط نظام والده. وجاء القذافي حينها في موكب ضخم يطلب ابنه الذي يملك بيتاً هناك، وكانا حينها متخاصمين، وفضل الساعدي الاستقرار في هذه المدينة البربرية التي حباها الله بمناظر وشواطئ جميلة. واليوم لم يبقَ من منزل الساعدي إلا جزء من حائط والبقية تم تدميره بالكامل.

زمن النظام السابق، كان البربر ممنوعين من الانضمام للقوات البرية والجوية، كما كانت اللغة البربرية (الأمازيغية) ممنوعة أيضاً. إلا أن الأمور تغيرت كثيراً منذ الإطاحة بالقذافي، وباتت الأعلام البربرية ترفرف في سماء زوارة، كما باتت اللافتات تكتب بهذه اللغة جنباً إلى جنب مع اللغة العربية، كما أصدرت مؤسسة إعلامية محلية صحيفة أسبوعية صغيرة باللغتين. ويقول بن ساسي: «الشباب هنا تبنوا نموذج القبائل (في الجزائر) والمتمثلة في الطريقة المتشددة في المطالبة بالحقوق، وإذا لم نحصل على حقوقنا والاعتراف باللغة الأمازيغية في الدستور المقبل فسننتزع هذا الحق بالقوة»، مضيفاً «ولكن الكبار منا يفضلون التفاوض، كما هو الحال في المغرب».

في وسط المدينة يبدو المستشفى الوحيد قد تغير تماماً، فبعد أن كان يستقبل الجرحى في حالة من الفوضى العارمة، في أغسطس ‬2011، أصبح اليوم هادئاً، وقد تمت توسعته بفضل منح الشركات الخاصة وقليل من الدعم الحكومي. ويقوم فريد غريب، (‬30 عاما)، والذي عاد إلى المدينة قبل الثورة بقليل، بعد أن أكمل دراسته في إفريقيا الجنوبية، بزيارة غرفة العمليات المجهزة بأحدث الوسائل الطبية، إلا أن الأقسام الأخرى لا تزال تحتاج إلى المعدات. ويقول غريب: «الحكومة لا تهتم بنا»، مشيراً إلى التوصيلات الكهربائية الرديئة الموجودة في غرفة الأطفال الخدج.

أما الأخصائي النفسي، أكرم إدريسي، فيقوم بزيارة مسقط رأسه مرة كل أسبوع ليجري فحوصاً للمرضى في مستشفى المدينة، ليعود بعدها إلى طرابلس. ويؤكد الأخصائي أن هناك عدداً كبيراً من حالات الاكتئاب، وممن أصيبوا بصدمات متقدمة بسبب الحرب الأخيرة، ولا يوجد في ليبيا سوى ‬15 طبيباً نفسانياً. وعلى بعد أمتار من المستشفى القديم، ينشغل العمال ببناء المستشفى الجديد الذي سيكون جاهزاً في المستقبل ويستوعب ‬350 سريراً، وقد عرقلت المواجهات بين الكتائب ومعارضي النظام، أثناء الثورة الليبية، الأعمال في المستشفى. وقد عاد المقاول التركي، شاغلي شاغيتاي، إلى ليبيا، بعد أن استقرت الأوضاع في زوارة وضواحيها، ويقول المقاول المكلف ببناء المبنى إنه منذ أشهر لم يسمع صوت طلقة واحدة، الأمر الذي يراه مشجعاً لاستكمال عملية البناء وربما التفكير في مشروعات أخرى.

كلام شاغيتاي ليس دقيقاً، فالوضع ليس بهذا الهدوء، إذ نشبت مناوشات عنيفة في مارس الماضي، استخدمت خلالها أسلحة مختلفة بين مجموعات متنافسة على النفوذ، كان المصنع الإيطالي الليبي «إيني غاز»، القريب من زوارة، مسرحاً لها. وبفضل التعزيزات المهمة تمكن أهالي زوارة من صد هجوم كتيبة الزنتان، القادمة من جبال نفوسة، ويعود فضل تحرير أجزاء من ليبيا إلى هذه الكتيبة. وتولت هذه الأخيرة حراسة المصنع الذي يعبر من خلاله الغاز إلى إيطاليا، كما يوفر المصنع الماء والكهرباء للعاصمة طرابلس. وبقيت آثار المواجهات على طرفي الطريق، ولا تزال السيارات المتفحمة في مكان المواجهات شاهدة على عنف المعركة.

توقفت مصانع وشركات عدة عن العمل منذ اندلاع الثورة، وبالقرب من زوارة، توقف مصنع كبير للمواد الكيمياوية عن العمل، وأيضاً شركة تربية المواشي والأسماك التي أنشأها الفرنسيون. وفي مواجهة هذه المصاعب، جرت تعبئة عامة للمواطنين، وكما هي الحال في بقية أرجاء البلاد، لا تستمر الحياة إلا بالوحدة بين السكان والعمل الجماعي. وفي هذا السياق، اجتمعت عائلات لدفع العجلة الاقتصادية من خلال استئناف العمل في المشروعات التي تعطلت بسبب الثورة، دون انتظار الضوء الأخضر من السلطة المركزية في طرابلس، أو حتى دعم الممثل الوحيد للمدينة في التجمع الوطني، وهو إسلامي تم انتخابه في أول انتخابات حرة في يوليو ‬2012.

بدأت هيئات مدنية في الظهور، وباتت جمعيات أهلية تعنى بالبيئة وأخرى توجد بالأطفال والمعاقين. ومنذ أسابيع، أطلق متطوعون حملة تنظيف وتزيين شاطئ زوارة لإعطائه مظهراً جميلاً. وأنشأت المدينة الصغيرة كتيبة صغيرة للدفاع عنها ضد الأخطار الخارجية، إضافة إلى وحدة تتكون من نحو ‬60 مسلحاً ملثماً، يقومون بضبط الأمور داخل زوارة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعصابات المسلحة التي تسلب وتنهب أموال السكان، وفي ذلك يقول أحد السكان: «إنهم ينظفون المدينة من الشباب المسلح، الذين يزرعون الرعب هنا وهناك».

في المقابل، تسعى المدينة لجلب المشروعات الكبيرة، خصوصاً العقارية منها، إضافة إلى توسعة المطار وفتح مركز جامعي وتجديد الملعب الرياضي. وتوظف المدينة ثقلها الثوري لاستضافة الألعاب الإفريقية المقررة أن تقام في ليبيا في ‬2017. ويقول المقاول عادل خاص: «صحيح زوارة مدينة صغيرة، ولكن لدينا الكثير من المقومات»، مضيفاً «لدينا ميناء ومطار، ونحن على مقربة من الحدود التونسية، وحتى الرئيس الاميركي باراك أوباما تحدث عن زوارة».

أما صاحبي، أحد سكان المدينة، فيقول إن «الأمور تتحسن شيئاً فشيئاً، والناس أكثر هدوءاً من قبل، وبدأوا ينظرون إلى المستقبل وما يمكن أن يفعلوه في حياتهم». إلا أن المدينة البربرية ليست مرتاحة كثيراً لجيرانها، فضلاً عن الحدود الليبية مع تونس، التي يتمركز فيها مجموعات مسلحة، لم تفعل السلطة المركزية شيئاً لطردها.