مع إعلان الثوار الليبيين انتصارهم على القوات الموالية للعقيد الليبي «معمر القذافي»، توقعت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا أنها سوف تستأنف إنتاج الخام من حقلين كبيرين في غضون نحو أسبوعين لتضاعف إنتاجها إلى نحو 700 ألف برميل يوميًا بنهاية العام في أحدث دلالة على أنه سيجري استئناف الإنتاج بوتيرة أسرع مما توقع الكثيرون، وذلك بعدما تراجع إلى بضع عشرات الآلاف من البراميل فقط في الأسابيع الأخيرة بعد أكثر من ثمانية أشهر من القتال، وذلك بسبب هروب شركات النفط الأجنبية وتدمير حلف الناتو البنية التحتية لحقول النفط ومرافئ التصدير.
ونتيجة لتلك التوقعات خفضت مجموعة «سيتي جروب» المصرفية توقعاتها لسعر النفط إلى أحد أدنى المستويات، معتبرة أن رحيل العقيد «القذافي» قد يؤدي إلى ارتفاع إنتاج النفط الليبي ومن ثم القضاء على معدلات السحب من المخزون، ويقلص الحاجة إلى زيادة إنتاج «أوبك» في الربع الأخير من 2011، ويعزز من التوقعات تسابق شركات النفط الأجنبية على العودة إلى العمل في الأراضي الليبية، مع إعلان الثوار السيطرة على «طرابلس»، وقد تصدرت شركة «توتال» الفرنسية وشركة «إيني» النفطية الإيطالية سباق العودة إلى ليبيا، كما من المنتظر أن تتنافس شركات جديدة مثل «قطر للبترول» و«فيتول للتجارة» مع شركات أوروبية وأمريكية كبرى لها أنشطة في ليبيا، للاستفادة بما يتميز به النفط الليبي دون غيره من الدول النفطية من أنه يمثل 60% من مساحة أراضي ليبيا، وهو ما جعلها تستحوذ على عاشر أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم وتحتل المرتبة السابعة عشرة في إنتاج النفط عالميًا، فكما تفيد أحدث التقديرات المنشورة عام 2010 فإن الاحتياطات المؤكدة من النفط الخام في ليبيا تقدر بنحو 46,42 مليار برميل، أي نحو 3,94% من احتياط العالم، و6,36% مما تنتجه المنظمة العربية المصدرة للنفط (أوابك)، و4,87% مما تنتجه الدول المصدرة للنفط (أوبك).
من ناحية أخرى، يقدر الإنتاج اليومي من النفط الليبي، وفق منظمة الدول العربية المصدرة للنفط، بنحو 1,474 مليون برميل، وهو ما يشكل 2,09% من إنتاج العالم، و5,1% مما تنتجه الدول الأعضاء في الأوبك. كما تتعدد المرافئ الليبية، ومن أهمها: مرفأ البريقة غرب بنغازي، بالإضافة إلى منشآت ومرافئ أخرى في الزاوية ومصراتة وغيرهما.
وعلى مستوى الدول، نجد القوى العالمية، كدول أوروبا من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، تتنافس على أسبقية استعداد كل منها للإسهام في إعادة إعمار ليبيا، وهو ما يعني إلى حد ما سرعة عودة الإنتاج النفطي الليبي إلى سابق عهده. ورغم كل ما سبق، مازالت السرعة التي ستستعيد بها ليبيا - العضو في «أوبك» - مكانتها في السوق مجهولة في الوقت الراهن، وهو ما أقره الكثير، منهم المديرة التنفيذية لـ«وكالة الطاقة الدولية» «ماريا فان در هوفن»، التي رأت أن الإنتاج النفطي الليبي لن يعود إلى مستواه السابق قبل 2013، بل هناك الكثيرون توقعوا مدة أطول من ذلك، لكي يعود الإنتاج الليبي إلى وضعه الطبيعي، مستشهدين بوعود العراق في هذا الصدد وعدم تمكنه من العودة إلى سابق إنتاجه إلا بعد 8 سنوات من الغزو الأمريكي.
ويدعم هذا الرأي أن المجلس الانتقالي الليبي مازال يواجه حزمة من التحديات والرهانات، التي لها الكلمة الأخيرة في نجاح الليبيين في تجاوز هذه المرحلة أو فشل ثورتهم في بناء دولة حديثة تتجاوز ما عاناه الشعب الليبي على مدار أربعة عقود، ومن أبرز تلك التحديات ما يلي:
- وجود مؤشرات تؤكد أنه من الواضح أن الفترة المقبلة لن تخلو من العنف وظهور التنظيمات المسلحة، سواء أكانت من بقايا نظام «القذافي» أم حتى التنظيمات المسلحة التي ستظهر لمناهضة سريان العمليَّة السياسيَّة الشرعيَّة داخل ليبيا بعد القضاء على نظام «معمر القذافي».
- المعارضة الليبية تتسم بتعقيد تشكيلها وتنوع التطلعات السياسية فيها، وفي داخلها تشمل جماعات دينية وعلمانية وعناصر مناهضة للقذافي منذ أمد طويل، ورغم أن النقطة المشتركة الوحيدة التي تجمع بين هؤلاء هي السعي للإطاحة بنظام القذافي، فإنه يصعب عليهم الحفاظ على التضامن بعد تحقيق هذا الهدف إذا ما لم تتحقق المصالحة الداخلية ومشاطرة الفوائد السياسية والاقتصادية.
- القيام بالإصلاحات الاقتصادية بعد الثورة يستلزم وقتًا ومجهودًا، فأي حكومة جديدة في طرابلس لن تتمكن من التعويل على العائدات النفطيَّة في المدى القصير أو المتوسط لحل مشاكلها؛ لأن الخبراء يقدرون أنها ستحتاج إلى 3 أعوام على الأقل قبل أن يعود إنتاجها النفطي إلى مستويات ما قبل الحرب، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث نزاع نتيجة لتباطؤ هذه الإصلاحات.
وفي الوقت نفسه، لا تمثل الأصول الليبية المجمدة التي أفرجت عنها بعض الدول، كإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تقدر بـ 170 مليار دولار إلا 10% من أصل الأصول الليبية المجمدة، التي تحتاج إلى سنوات لاستعادتها، أو الكشف عنها، وهو ما يضع المجلس الانتقالي في مأزق حقيقي في مواجهة تلبية احتياجات المواطنلذلك، فإن توقع «أوبك» بعودة حصة ليبيا خلال عام أو نصف العام، هو أمر مستبعد في ظل تلك التحديات التي تحول دون ذلك، وحتى إن استطاعت الشركات النفطية العمل في ظل تلك الأجواء من المتوقع أن تستحوذ دول الناتو على هذا الإنتاج، فلا شك أنها تنتظر نصيبها من الكعكة؛ فدول مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا بل وأمريكا أنفقت ملايين الدولارات من أجل تمويل العمليات العسكرية ضد «القذافي»، ولكن بعد سقوط النظام، ترى أنه قد حان وقت الحصاد.
ويلفت المحللون إلى أن بداية هذا التدخل الغربي ستكون من خلال التدخل في وضع الدستور الليبي والتشريعات الليبيَّة الجديدة من أجل سنّ قوانين تسمح لهذه الدول بأخذ حصتها ونصيبها من النفط. وفي هذا السياق، نشرت صحيفة (ليبرتيه) الجزائرية الصادرة باللغة الفرنسية 1 سبتمبر 2011 خطابًا سريًا قالت إنها حصلت عليه وجهه «مصطفى عبدالجليل» رئيس المجلس الانتقالي الليبي إلى «الإخوة في الديوان الملكي القطري» و«الديوان الأميري الإماراتي الأعلى» وإلى «عمرو موسى» أمين عام الجامعة العربية السابق، بتاريخ 3 ابريل 2011، يبلغهم فيها باتفاقية النفط مع فرنسا مقابل الاعتراف بالمجلس في مؤتمر لندن كممثل شرعي لليبيا، وتنص الاتفاقية على تخصيص حصة 35% من إجمالي النفط الخام (الليبي) للفرنسيين مقابل الدعم الكامل والدائم للمجلس.
وهنا يبرز الخوف من تكرار النموذج العراقي في ليبيا، فيما يخص إنتاجها من النفط؛ حيث شهد إنتاج العراق العديد من التقلبات والتوقفات منذ الغزو الأمريكي، وبعد مرور ما يقرب من ثماني سنوات على الغزو الأنجلو أمريكي، لم يمكن العراق من العودة إلى حصته القديمة من الصادرات النفطية؛ حيث من المفترض أن تكون تلك الحصة بنحو (4ملايين برميل)، ولكن صادراته حاليًا تقترب من 2مليون و200 برميل يوميًا ما يدل على انعدام الطاقة التصديرية؛ حيث مازال العراق يفتقر حتى الآن إلى سياسة نفطية واضحة المعالم.
ومع توسيع زاوية الرؤية، يتضح من جانب آخر أنه مع كل خفض أو توقف للنفط العراقي، تأثرت كل الدول الأعضاء في منظمة الأوبك، التي يعد العراق أحد أعضائها، كما تأثر الاقتصاد العراقي نفسه بل والعالمي؛ حيث تحملت دول أوبك الأخرى، وبالأخص دول مجلس التعاون الأعضاء فيها نقص الإنتاج، بزيادة قدرتها الإنتاجية، لإحداث التوازن في السوق العالمي، وهو ما كان يكلف تلك الدول تكاليف أكبر لرفع طاقتها الإنتاجية؛ حيث أدت البرامج السريعة لزيادة الإنتاج إلى زيادة الاستثمارات الموجهة لرفع الطاقة الإنتاجية، وبالتالي ارتفاع تكاليف إنتاج الوحدة الواحدة، هذا بالإضافة إلى تآكل القيمة الحقيقية للقوة الشرائية للعائدات النفطية نتيجة لتراجع قيمة الدولار أمام العملات الرئيسية الأخرى من ناحية، وإلى ارتفاع أسعار السلع المصنعة التي تستوردها دول أوبك من الدول الصناعية من ناحية أخرى.
وقد أدى عدم تقيد دول الخليج بالحصص المقررة لها، وحرصها على تلبية احتياجات الطلب العالمي عن طريق زيادة الإنتاج منعًا لحدوث أزمة نفطية، مع استخدام المخزون الاستراتيجي لدول الوكالة الدولية للطاقة، إلى ظهور فائض في العرض العالمي، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض أسعار النفط العالمية، وبالتالي التأثير بالسلب على برامج التنمية بدول الخليج. وبتطبيق هذا الأمر مع ليبيا، بالإضافة إلى التكاليف الباهظة التي تحملتها دول الخليج بسبب رفع طاقتها الإنتاجية النفطية لتعويض الاقتصاد العالمي عن توقف نفط ليبيا، الذي يمثل ما يقرب من 50% من الواردات الأوروبية من النفط، نجد من زاوية أخرى أن الموقف ذاته سيتكرر مع منطقة الخليج ويعزز من هذا اختلاف أهداف ورؤى الدول الأعضاء في المنظمة إزاء الطلب الخليجي في الاجتماع السابق للمنظمة في يونيو 2011 مع بدء الثورة الليبية، والخاص برفع الإنتاج لتعويض توقف إنتاج ليبيا؛ حيث ووجه هذا الطلب برفض من بعض الأعضاء، مما دفع كلاً من السعودية وبعض دول الخليج الأعضاء في أوبك إلى عدم الالتزام بالقرار وزيادة إنتاجهم في الأشهر القليلة الماضية، انطلاقًا من حرصهم على ألا تكبل تكاليف الطاقة المرتفعة النمو الاقتصادي العالمي المتدهور حاليًا، نظرًا إلى وقوع القوى الصناعية الكبرى، كالولايات المتحدة وأوروبا، في عدد من الأزمات المالية، وهو ما يعني للدول المصدرة للنفط انخفاض الطلب في المدى الطويل، وبالتالي سيتأثر مصدر إيرادات التصدير الرئيسي لهم؛ في حين أن الأعضاء الآخرين مثل إيران وفنزويلا والجزائر الذين عارضوا الدعوة إلى ضخّ مزيد من نفط أوبك يملكون احتياطيات نفطية أقل وعدد سكان أكبر، ويفضلون إبقاء الأسعار مرتفعة قدر الإمكان.
المؤشرات السابقة تقود إلى العديد من الحقائق وأهمها أنه حتى تتجنب ليبيا التحديات السابق ذكرها، وحتى تتجنب أوبك خطورة توقف النفط الليبي، فعلى المعارضة الليبية التعلم من دروس حرب العراق، وضرورة تحقيق المصالحة السياسية بين جميع طوائف البلاد، وتسوية الخلافات الداخلية في أسرع وقت ممكن، ورفض الإملاءات الغربية على المعارضة حتى تعتمد على نفسها، ولتحقيق ذلك عليها أن تتعاون مع قوات الجيش والشرطة لتشارك في الحفاظ على استقرار البلاد. ويجب تجنب الحرب القبلية، ويتعين أيضًا أن تسود العدالة، وليس الانتقام، كي لا تنشب حرب أهلية في ليبيا على غرار الحرب التي اندلعت في العراق، وبالتالي تتجنب ليبيا ارتكاب أكبر الأخطاء التي ارتكبتها القوات الأمريكية بعد احتلال العاصمة العراقية بغداد في حرب عام 2003، حين حظرت تولي أعضاء حزب البعث المنحل الذي تزعمه الرئيس العراقي السابق «صدام حسين» المناصب الحكومية وما شابه ذلك، فقد ساعد هذا بشكل مباشر المجموعات الإرهابية وفصائل أخرى في الحصول على المسلحين المدربين والمخضرمين، وأدى إلى فقدان السيطرة على الوضع الأمني في العراق فترة طويلة. كما على المعارضة تسوية القضايا القبلية التي لم يتمكن نظام القذافي من حلها، وتحقيق توازن المصالح بين مختلف القبائل لاستبعاد شن هجمات من قبل الجماعات المتطرفة، وتمثل أولوية الأعمال توزيع عائدات النفط.
وهنا يرى محللون ان إشراك القبائل الموالية للقذافي في العملية السياسية الجديدة وإدخال قوات الحكومة في الجيش الجديد الذي سيقام أمر سيساعد على استقرار الوضع. وأخيرًا؛ ينبغي على الليبيين أن يعتمدوا على أنفسهم لا القوى الغربية، فلابد من أن يثبتوا أنهم ليسوا موالين للغرب لتجنب قوى التطرف ونموها في ليبيا بحجة مكافحة الغرب.