تعتمد مملكتنا على الصادرات النفطية بشكل كبير كمصدر دخل (يشكل النفط ومشتقاته والصناعات المصاحبة له نحو 90 في المائة من دخل المملكة)، وبما أن النفط مقيّم بالدولار فمن المنطقي ربط عملتنا بالدولار. ويعتبر الدولار العملة الاحتياطة الرئيسية في العالم حيث يشكل 61 في المائة من احتياطات العالم من العملات. وأحترم وأقدر مخاوف المراقبين والمهتمين من إخفاق سياسي أمريكي يؤدي إلى انحدار الدولار إلى مستوى تتلاشى معه احتياطاتنا من العملة الخضراء (رغم استبعادي لحدوث ذلك)، فالأجدر والأولى من المطالبة بفك ارتباط الريال بالدولار في الأوضاع الحالية لتركيبة اقتصادنا، هو المطالبة والعمل على تنمية صناعية خدمية بل وحتى زراعية عملاقة يصبح معها دخلنا من النفط لا يساوي إلا 20 في المائة من مجمل الدخل العام في المملكة. وحينها فقط سيصبح فك ارتباطنا بالدولار تحصيل حاصل وليس مجرد مخاطرة قد تؤدي إلى نتائج لا تحمد عواقبها. فالتنمية الصناعية تبدأ بالتركيز على الصناعات التي تتمحور حول النفط (كون مملكتنا الحبيبة تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم ورابع احتياطي في الغاز). فنحن بدأنا بالصناعات البتروكيماوية، وعلينا ألا نتوقف هنا. فلا ينبغي أن نكون أكبر دولة مصدرة للنفط ونحن نستورد معظم التقنيات النفطية وتقنيات وآلات الحفر والتقنيات البتروكيماوية. فالأولى والأجدر أن نكون مصدرين لها لجميع دول العالم. كما أنه لا يسعد ولا يفرح أن نذهب إلى الدول لنتعاقد على بناء ناقلات النفط، فالأولى والأجدر أن نكون نحن من يصنع ويصدر للعالم ناقلات النفط. وكوننا أكبر دولة منتجة للمياه المحلاة، فينبغي أن نكون رواد صناعة تحلية المياه في العالم، وينبغي للدول أن تأتي لنا للتعاقد على شراء الآلات والمعدات والتقنيات.
وينبغي أن يكون المقاولون لدينا الرواد في العالم في إنشاء هذه المحطات بدلا من التعاقد مع الشركات الأجنبية (التي استحقت التفوق ونالته بجدارة نتيجة الإتقان والتفاني والعزيمة والإصرار والتخطيط الناجح). فأنا لا أطالب أن نكون أكبر دولة في تصدير صناعة الطائرات والسيارات والكمبيوترات (رغم مشروعية المطالبة)، بل أطالب بأن نكون الرواد في الصناعات التي نعتبر أكبر مستخدم لها على مستوى العالم (الصناعات النفطية وصناعات وتقنية تحلية المياه). وأرجو أن تكون هذه الأهداف والتطلعات على رأس أولويات واهتمامات القائمين على المدن الاقتصادية لدينا. فمثل هذه التطلعات لا تتحقق بالأماني والوعود غير القابلة للترجمة على أرض الواقع. بل تتحقق بالتخطيط والمثابرة ومشاركة الجميع في الرأي والقرار حتى يكون الجهد جماعيا ويكون العمل تحت رقابة ومتابعة وإشراف الجميع كي لا نفاجأ بفشل الاستراتيجية بعد بذل المال والوقت. وأرجو من القائمين على المدن الاقتصادية التعلم من الأخطاء السابقة التي كتب عنها المتابعون والمهتمون بالشأن الاقتصادي كثيرا. أما التنمية الخدمية فينبغي لها أن تشتمل على خطة تحقق لنا الريادة في أن نكون في الطليعة بكل ما يتعلق بالصناعة المصرفية الإسلامية. فالتقدم التقني والبنية التحتية الفائقة التي نتمتع بها في المجال المصرفي والخبرات المتراكمة والمشهود لها دوليا للكفاءات المصرفية السعودية والعمق المعرفي والفكري لعلمائنا الأفاضل والتفوق التشريعي والرقابي الذي تتمتع به مؤسسة النقد، كل ذلك كفيل بأن نكون رواد الابتكار للأدوات المالية التي تحقق وتلبي الاحتياجات التمويلية للشركات والأفراد المهتمين بالتمويل الإسلامي وعلى مستوى العالم. كما ينبغي لنا ألا نقبل بأن نكون أقل من المركز الأول في التأمين التكافلي الإسلامي. وعلينا أن نخطط ونعمل أيضا على أن نكون روادا في الخدمات السياحية، فمملكتنا الحبيبة تحتوي على أعظم وأشرف بقعتين في العالم، ومناطق المملكة المختلفة بها من الآثار والمواقع التاريخية ما يرجع إلى مليون سنة قبل الميلاد.
ويكفي أن نعرف أن كثيرا من الدول تعتمد على السياحة كمصدر دخل. وفي بعض الدول يفوق عدد السياح الزائرين لها في العام الواحد عدد سكان الدولة نفسها، ومثال ذلك فرنسا وإسبانيا. ولا يسعني سوى الإشادة بالجهود المشهود لها من الجميع للقائمين على الهيئة العامة للسياحة والآثار والتي ستؤتي أكلها ــــ بإذن الله ــــ في المستقبل القريب لتكون مملكتنا قبلة دولية للسياحة النقية. ورغم كوننا دولة صحراوية جافة وذات مصادر مائية محدودة إلا أنه بالعلم والتقنية يمكننا التغلب على هذه التحديات ــــ بإذن الله ــــ. فتقنية النانو تبشر بإمكانية تعديل وترويض التركيبة الجينية للنباتات وتهيئة سلالات تتحمل درجات عالية من الملوحة والحرارة. وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية تسخر مواردها متعددة التخصصات لتلبية ليس فقط حاجة المملكة بل احتياجات المجتمع العالمي ككل في مجال تقنية أبحاث النانو (كما هو مذكور في موقع الجامعة). وهذا بلا شك مدعاة للفخر لكل السعوديين، وكلنا أمل بالله بأن يفتح الله على الباحثين فيتحقق لهم سبق ينقل الإنسانية إلى مرحلة متقدمة من التقنية والقدرة على التعايش مع الظروف البيئية الصعبة ــــ بإذن الله ــــ.
إن تحقيق التقدم والريادة في المجال الصناعي والخدمي والزراعي ليساهم وبنسبة كبيرة في الاقتصاد المحلي، هو الضامن الوحيد لنجاح فك ارتباط عملتنا بالدولار متى اتخذ القرار بذلك. كما أن الضامن لتحقيق التقدم الصناعي والخدمي والزراعي هو العمل الجماعي جنبا إلى جنب مكملين بعضنا بعضا، واضعين نصب أعيننا هدفا واحدا، وهو التقدم حتى نكون مثلا تحتذي به جميع دول العالم. وحينها لن يكون الريال السعودي عملة قوية ومستقلة فقط، بل وعملة احتياط لدول العالم الأخرى. والله من وراء القصد.