كان طبيعيا أن يترتب على ما يسمى «الربيع العربي» في مصر وتونس وليبيا مشهد اقتصادي واجتماعي يتراوح بين الاستقرار وعدمه؛ فما ان تستقر الأوضاع وتعود الحياة لنسقها الطبيعي في تلك الدول، حتى تنفجر من جديد؛ حيث يؤكد المحللون أن هذه الاقتصادات جيدة على مستوى المدى البعيد، إلا أنها تواجه حاليا تحديات اقتصادية خطرة، وأن النمو في دول شمال افريقيا والشرق الأوسط لعام 2011 قد يتراجع مقارنة بعام 2010، بسبب الأحداث السياسية في المنطقة؛ حيث اعتبر تقرير البنك الدولي أن التراجع في النمو الاقتصادي قد يكون بنحو ثلاث نقاط، وذلك على خلاف التوقعات السابقة للبنك والصادرة في يناير وتشير إلى نمو إجمالي للناتج الداخلي في المنطقة من 3,3% عام 2010 إلى 4,3% عام 2011.
وبعد مرور عدة شهور على اندلاع الثورات في بلدان الربيع العربي وإسقاط نظمها، فمازالت تعاني خسائر اقتصادية كبيرة، ففي مصر، من الواضح أن أداء اقتصادها يمر بفعل الأحداث السياسية بمنعطف حرج، فقد بلغت قيمة الاستثمارات الكلية المنفذة في عام 2010/2011 المنتهى في يونيو الماضي نحو 229 مليار جنية بانخفاض نحو 3% عن العام السابق وبلغ معدل الاستثمار 16,7 %من الناتج المحلى الإجمالي مقابل 22,3% في عام 2007/2008 وبلغ نحو 19,5% في يونيو 2010. كما تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد التونسي بنسبة 2% خلال النصف الأول من عام 2011 مقارنة بنظيره في عام 2010، وذلك حسب «تقديرات أولية» للمعهد الوطني للإحصاء التونسي.
أما البلد الآخر الذي لايزال يشهد حالة من عدم الاستقرار، وهو اليمن، فقد أصيب اقتصاده بالشلل جراء ثمانية أشهر من الاحتجاجات الشعبية وتوقع صندوق النقد الدولي في ابريل أن يتباطأ النمو الاقتصادي إلى 3,4% في 2011؛ حيث يعيش نحو 40% من سكانه البالغ تعدادهم 23 مليونا على أقل من دولارين يوميا.
كما دخل الاقتصاد السوري في غيبوبة طويلة بعد استمرار سلسلة الاحتجاجات ضد النظام، ومنذ 5 أشهر باتت معظم القطاعات المالية والمصرفية غير قادرة على الاستمرار فالحركة الاقتصادية تدهورت بنسبة بلغت أكثر من 50%، مع تراجع الاستهلاك وتعثر القطاع الخاص في مقاومة الأحداث، حيث ارتفعت نسبة البطالة وصرف العاملين في قطاعات كانت نشطة وتقود الاقتصاد ومنها الفنادق والصيدلية والخدمات.
أمام تلك الصورة، أصبحت منطقة الشرق الأوسط -التي تشكل أهم مصادر إنتاج النفط الرئيسية في العالم - موضع تقييم واهتمام كبير من قبل المراقبين الدوليين، وهو ما تجسد في أحد أشكاله في اهتمام برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا بالمعهد الملكي للعلاقات الدولية بلندن بالاشتراك مع شركة «إف تي آي للاستشارات» لتنظيم مؤتمر ، يوم 12/9/2011 جاء تحت عنوان «اقتصادات الربيع العربي». وحاول المؤتمر إلقاء الضوء على التفاعل الواضح بين السياسة والاقتصاد في خضم «الربيع العربي»؛ حيث أدى تزايد شعور شعوب هذه الدول بالسخط تجاه الظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشونها إلى احتجاجات اجتاحت منطقة شمال افريقيا منذ مطلع هذا العام. ويحتاج مثل هذا الشعور، بجانب أوجه القصور المؤسسية الواضحة إلى معالجة لعودة الاستقرار إلى المنطقة.
وقد لخص المعهد الملكي للعلاقات الدولية، هذا الأمر في قوله إنه «لا يمكن فهم المشاكل الاقتصادية بشكل مستقل بعيدًا عن السياسة، ولن تساعد المنح المالية على حل هذه القضايا. من ناحية أخرى، لن تؤدي معالجة القضايا السياسية وحدها إلى تلبية تطلعات الشعوب، التي ركزت في المطالب السياسية والاقتصادية». ومع وضع هذا في الاعتبار، حاول مؤتمر «اقتصادات الربيع العربي» تفسير القضايا الاقتصادية المعقدة في العالم العربي، مما يتيح بالتالي تضافر الجهود للتغلب على مثل هذه القضايا، وهنا كان لابد من تسليط الضوء أولاً على المتغيرات السياسية التي أفرزها الربيع العربي، حتى نتمكن من معرفة أنسب السبل لحل المشاكل الاقتصادية التي تعانيها بلدان الربيع العربي، ومن أبرز تلك المتغيرات وفقًا لما حددته «ريما خلف هنيدي» مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا:
- أن نظرية الاستثناء العربي تحطمت؛ حيث كانت هذه النقطة بخاصة إشارة إلى الجدل العام أن منطقة الشرق الأوسط، بعيدة كل البعد عن الديمقراطية. حيث قال كثيرون إن الجوانب الاجتماعية والثقافية والدينية في «العالم العربي» تتنافى مع الأسس الديمقراطية الموجودة في دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ ولكن الربيع العربي حطم هذه النظرية وتحطمت معها فكرة أن العرب غير صالحين للديمقراطية.
- أن الغرب لن يكون قادرًا على تحديد ما يجب القيام به أو يجب عدم القيام به؛ حيث استلهمت الشعوب العربية فكرة ممارسة حقها في تقرير المصير، وأن ذلك من المرجح أن يشجع قادة الأنظمة الجديدة في العالم العربي على الدفاع عن استقلالية الوطن والمواطن داخل حدود البلد، وظهر هذا الواقع عن طريق مصر؛ حيث رفضت مساعدات صندوق النقد الدولي والمساعدات الأمريكية.
وأخيرًا، فإن عملية السلام في الشرق الأوسط ستشهد تغيرًا ملموسًا؛ خاصة بعدما أصبحت الديمقراطيات العربية غير متسامحة مع الاحتلال الإسرائيلي غير المفهوم للأراضي الفلسطينية. وأوضحت أن الأصوات العربية، المهمشة في السابق، سيكون لها تأثير هائل الآن في السياسة الخارجية، كما أن حكومات الشرق الأوسط ستأخذ في اعتبارها إرادة الشعب إذا كانوا يريدون أن تتم إعادة انتخابهم بنجاح. وفي هذا السياق نوهت بأنه بجانب المتغيرات المرتبطة «بالربيع العربي»، هناك أيضًا مجموعة من التحديات الكبيرة، التي يجب التغلب عليها لينجح التحول نحو الديمقراطية والاستقرار الجديد في المنطقة على المدى الطويل، ومنها:
- تعزيز الثقافة الديمقراطية؛ إذ يجب التغلب على نقطتين مهمتين ومعالجتهما؛ تتعلق النقطة الأولى بمكانة الدين في الدولة (في إطار الدستور ومؤسسات الدولة وما إلى ذلك)، أما النقطة الثانية فهي متعلقة بضرورة تحديد دور الجيش ووضعه داخل المجتمع.
- الوقاية من الانتكاسة والعودة إلى العنف، فالحقيقة أن آليات الانتقال الفعلي بحاجة إلى ترسيخها لمنع الانتكاسة أو العودة إلى العنف. وهنا، من الضروري عدم إعطاء كل الاهتمام بملاحقة أولئك الذين كانوا متحالفين مع الأنظمة التي تم التخلص منها؛ حيث كان اجتثاث حزب البعث من العراق عقب الإطاحة بالرئيس «صدام حسين» هو أوضح مثال على أن مثل هذه السياسة يمكن أن تتسبب في اندلاع أعمال عنف طائفية؛ حيث من الممكن أن تؤدي لعبة شد الحبل مع المنتفعين من النظام السابق إلى تدمير القيم التي يتم القتال من أجلها.
- وضع سياسات اقتصادية في نصابها الصحيح، فهناك حاجة إلى الاتفاق بسرعة على استراتيجيات اقتصادية وتنفيذها للمساعدة على التحول السياسي للديمقراطيات الناشئة في الشرق الأوسط.
- إدارة التوقعات في أوساط الشعب العربي؛ حيث هناك حاجة إلى توازن بين المطالب المستمرة للشعب العربي أملاً في تغيير جذري وإدراك أن هذا التغيير من المحتمل أن يستغرق وقتًا طويلاً وستكون هناك منافع اجتماعية واقتصادية قليلة على المدى القصير.
واستطرادًا أكدت المتحدثة أنه تبقى هناك حاجة إلى تقديم المساعدة لإنعاش الاقتصادات من جديد، وهي العملية التي بلا شك ستتوقف على إعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية غير الفعالة. ولكن على ما يبدو أن مسألة الثقة قد تشكل عائقًا على المدى القصير؛ حيث إن العرب مازالوا متشككين في المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي على حد سواء، فعلى سبيل المثال، هناك الكثير من العرب لم ينسوا كيف أن بعض الأطراف الفاعلة داخل المجتمع الدولي أيدت وحافظت بشكل فعال على الوضع السابق الذي تم تغيير بعضه في الآونة الأخيرة؛ حيث تتغاضى تلك الأطراف عن مصالح الشعوب. ومع وضع هذا في الاعتبار، فإن قدرة المجتمع الدولي على المساعدة قد تكون مقيدة بسبب الشكوك المحيطة بنيات بعض الجهات نتيجة دعمها السابق للديكتاتوريين الموالين الذين يضمنون الحصول على النفط والهيمنة الإسرائيلية داخل المنطقة.
وفي السياق نفسه، أوضح «أندرو ميتشل»، وزير التنمية الدولية بحكومة المملكة المتحدة، أنه ينبغي أن تتوقف المملكة المتحدة عن فرض توجيهاتها الخاصة على الشعوب العربية كمثال أفضل السبل لتحقيق الانتقال نحو الديمقراطية والاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، أشار إلى أنه لا يعد تقديم المساعدة للعرب الذين يسعون إلى الديمقراطية وإلى إصلاح اجتماعي واقتصادي جذري عندما يتم طلب ذلك واجبًا أخلاقيٌّا فقط، وإنما يعد القيام بذلك مصلحة قومية للمملكة المتحدة؛ فالفوائد المحتملة التي يمكن أن تحصل عليها بريطانيا نتيجة زيادة الاستقرار في المنطقة كتعزيز التجارة والتبادل التجاري ولاسيما في قطاع الطاقة (الغاز وإمدادات النفط) ستكون كبيرة.
وقد رأى أن هناك حاجة إلى إعادة بناء الثقة بين الشعوب العربية نتيجة ازدراء القادة الذين أساءوا التصرف في اقتصاد بلادهم. لذا، يجب على المشرفين على عملية التحول نحو الديمقراطية أن تكون تحركاتهم فيما يتعلق بنظام الدولة الاقتصادي تتمتع بأعلى درجة من المساءلة والشفافية، نظرًا لأن «الإحباط وعدم الجدوى عاملان قويان» يمكن أن يعرقلا عملية التحول. وهو القول الذي ينطبق مع مقولة «كريستين لاجارد»، مدير صندوق النقد الدولي، في كلمة ألقتها بمركز «وودرو ويلسون» بواشنطن في 16/9/2011 بعنوان «تحديات الاقتصاد العالمي والحلول» ان البلدان النامية، خاصة دول الربيع العربي في حاجة إلى إعادة بناء الثقة والمصداقية بالنسبة إلى سياستها الاقتصادية بأن يصل الدعم إلى مستحقيه وبالتالي حماية الفقراء من تقلبات أسعار السلع الغذائية.
وأوضح المتحدث أنه لا ينبغي للحكومات وصانعي السياسات ورجال الأعمال على حد سواء أن يضعوا في اعتباراتهم مدى التعقيدات والتباينات التي يتسم بها «العالم العربي» عند محاولتهم وضع استراتيجية اقتصادية قابلة للحياة؛ فيجب أن يؤخذ بعين الاعتبار الطابع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي المميز لكل بلد، ولكن أيضًا هناك نقاط تشابه في بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية، كالبطالة والاحتياج لاستثمارات القطاع الخاص، والنمو الاقتصادي، والأمن الغذائي. ففيما يتعلق بالبطالة - بحسب ميتشل - فمن المعلوم أن مستويات البطالة المتفشية داخل المنطقة (من أعلى معدلات البطالة في العالم) التي تستمر في الارتفاع في الوقت الراهن، كانت سببًا في تغذية عوامل السخط والكراهية في جميع أرجاء المنطقة، وبلغ التأثير الحاد جراء النقص الواضح في الفرص نتيجة نظم التعليم الميئوسة وعدم وجود استثمارات خاصة أشده ليلقي بظلال سطوته على الشباب. وبالتالي يمكن القول إن مسؤولية وقف معدلات البطالة المرتفعة تقع على عاتق القطاع الخاص، ولكن هناك مشاكل واسعة النطاق تعوق الاستثمار الخاص والمبادرات التجارية، بالتالي التأثير في توفير فرص عمل.
إن ثقة المستثمرين لجلب استثماراتهم بمنطقة الشرق الأوسط قد تدنت في أعقاب اندلاع الاضطرابات التي طال أمدها، وعلى ذلك يجب بذل محاولات مضنية لاستعادة الثقة مجددًا، من خلال تخفيف قبضة الدولة عن الاقتصاد في المناطق الغنية بالموارد، كما أن عدم وضوح المستقبل يمنع تدفق رأس المال الأجنبي، بينما قد يسعى الأثرياء إلى إخراج أموالهم. وتأسيسًا على ذلك، يمكننا التأكيد أن الحذر مطلوب، وتجب ملاحقة الفساد. لكن القطاعات التي يسيطر عليها أصحاب الحظوة عند الحكام يجب أن تبقى تعمل، بينما تتم مصادرة الأموال غير الشرعية. والسعي إلى منع هروب رأس المال يمكن أن يتسبب في هروبه بسهولة، ولذلك فإن إيجاد طرائق لتبادل رأس المال الأجنبي أفضل من فرض قيود على رأس المال، بالإضافة إلى ضرورة الاستخدام الأمثل للموارد؛ فقد أوضح «ميتشل» أنه في ليبيا واليمن، اللتين تعانيان إلى حد كبير الضعف الاقتصادي لكونهما ضمن بعض البلدان التي أساءت استخدام الموارد الطبيعية الثمينة، من الخطأ استخدام الإيرادات التي يمكن أن تتولد من الاستخدام السليم للموارد (أي إنتاج وتصدير النفط) بغرض تزوير درجة من الولاء للسلطة المركزية من خلال توزيع إعانات الطاقة، وإذا ما تم استخدام الموارد على نحو مؤثر، فيمكن أن يخف الضغط المكثف الراهن عن الاقتصادات العربية الهشة. كما أن هناك حاجة إلى قيادة سياسية اقتصادية من أجل التخطيط لإصلاحات طويلة الأمد تعتمد على تعزيز المنافسة، وإعادة توزيع الفرص، وهو ما قد يواجه معارضة من المنتفعين الوصوليين.
وأخيرًا لا يمكننا إلا تأكيد ما قاله المتحدثون، من أن توسيع دائرة الملكية والمنافسة ضروري من أجل تخصيص أفضل للموارد، لكن من دون تسرع في تحرير الاقتصاد، خاصة في ظل ضرورة الإبقاء على برامج الإعانات الاجتماعية والغذائية، ولاسيما في الوقت الحالي، إلى أن يتم استبدال قوة شرائية مباشرة للفقراء بها. ففي اقتصادات الربيع العربي ثمة تنوع تتحقق بموجبه معايير جديدة للحكم من ناحية اقتصادية، في ظل أنظمة لا «شللية» فيها، ولا وجود للاختلاط رأس المال بالسلطة، بل ستنشأ اقتصادات مرادها ستكون حتمًا لصالح الفقراء والطبقات الوسطى وبما يؤسس لإمكانية إعادة توزيع الثروة وفقًا لأسس عادلة وتوافقية ومن خلال معايير اقتصادية تقوي من إنتاجية الفرد وتربطه ارتباطًا وثيقًا باقتصاده، بحيث يكون للولاء شكل جديد، ويجب على الجميع أن يدرك أن بناء الدول من جديد عملية أكثر صعوبة وقسوة، والمأمول أن ينتهي الربيع العربي إلى حرية سياسية واقتصادية يكون الإنسان فيها هدف التنمية وأداتها عقب إزالة أشكال التشوه كافة من حولنا.
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية.