مأزق هندي اسمه النفط الإيراني

تاريخ النشر: 12 مارس 2012 - 03:38 GMT
المأزق الذي يعاني منه الهنود هو كيفية دفع قيمة فواتير وارداتهم من الخام الإيراني بسبب الحظر المفروض على البنك المركزي الإيراني
المأزق الذي يعاني منه الهنود هو كيفية دفع قيمة فواتير وارداتهم من الخام الإيراني بسبب الحظر المفروض على البنك المركزي الإيراني

 تستورد الهند ثلثي حاجتها من النفط البالغة 2.2 مليون برميل يوميا من منطقة الشرق الأوسط. حيث تزودها السعودية بنسبة 18 بالمائة، فيما تأتي إيران في المركز الثاني بنسبة 12 بالمائة، أما الباقي فيأتي من الكويت والإمارات والعراق بنسب تتراوح ما بين 8 إلى 10 بالمائة. ويتوقع أن تزيد حاجتها لهذه الواردات في عام 2012 لتصل إلى 3.3 مليون برميل يوميا.

وهكذا نرى أن إيران تلعب دورا ليس قليلا في تلبية حاجة الهنود من الخام الذي لا ينتجون منه سوى 28 من حاجتهم طبقا لإحصائيات 2009 ، من بعد أن كانوا ينتجون في الثمانينات نصف حاجتهم تقريبا. غير أن المشكلة التي باتت تواجههم لا تكمن فقط في الضغوط التي يتعرضون لها من الامم المتحدة وواشنطن ودول الاتحاد الاوروبي واسرائيل للتوقف عن شراء النفط الايراني تطبيقا للعقوبات الدولية المفروضة على طهران بسبب برنامجها النووي الطموح، وإنما في طريقة سداد فواتير الخام المستورد (تصل قيمتها إلى 13.5 بليون دولار) بسبب الحظر المفروض على البنك المركزي الإيراني. فعلى الرغم من ان نيودلهي وافقت على القرارات الاممية ذات الصلة بمعاقبة طهران على برنامجها النووي، فإنها في الوقت نفسه لا تطبق الاجراءات المفروضة عليها من قبل الإميركيين والأوروبيين من تلك الخاصة بالامتناع عن شراء النفط الايراني، الذي تعتبر الهند ثاني أكبر مستورد له بعد الصين بحسب أرقام العام المنصرم.

وقد اعرب الاميركيون عن صدمتهم العميقة من قرار نيودلهي الاستمرار في شراء الخام الايراني كالمعتاد، مضيفين أنه يشكل اعاقة لسياساتهم الهادفة الى فرض العزلة على طهران، وان الهند لا تزال تتصرف كلاعب اقليمي، وليس كلاعب دولي وقد سارعت الصحافة الهندية بالرد قائلة: إن العكس هو الصحيح! فرفض نيودلهي الانصياع لطلبات واشنطن وحلفائها هو سمة من سمات اللاعب الدولي المستقل الذي لا يذعن لاملاءات الآخرين وإنما يفعل ما تتطلبه مصالحه وأولوياته. ويرى المحللون الهنود ان القضية لا تتعلق بحاجة بلادهم للنفط بقدر ما هي احداث توازن في عالم شديد التعقيد ذي عوامل متداخلة اقتصادية وسيادية واستراتيجية، الامر الذي يتطلب سياسة خارجية مستقلة تحافظ بها البلاد على علاقات حميمية مع جميع الاطراف المتخاصمة في منطقة الشرق الاوسط كايران واسرائيل ودول الخليج العربية. والهند، كما يعلم المتابع لسياساتها الخارجية، حاولت منذ زمن أول رؤساء حكوماتها جواهر لال نهرو، ولا زالت تحاول أن تكون حذرة في علاقاتها الخارجية التي يمكن إعتبارها صدى لأوضاعها الداخلية. فمثلا هي مضطرة ألا تتبنى سياسات تسبب قلقا في دول الخليج العربية، ليس لأن الأخيرة موردة رئيسية لحاجتها من الطاقة، وليس لأنها شريكة لها في إستثمارات معتبرة، وليس لأنها سوق للملايين من عمالتها، وإنما أيضا خوفا من إثارة مشاعر سكانها المسلمين السنة البالغ عددهم أكثر من مائة مليون نسمة. في الوقت نفسه لا تريد الهند أن تظهر كقوة معادية لإيران ليس بسبب الـ 12% من حاجتها من الخام الذي تتزود بها من طهران، وإنما لأسباب جيوسياسية، ناهيك عن خوفها من إثارة مشاعر نحو 36 مليونا من مواطنيها الشيعة أو من في حكمهم. على أن هذا ليس مأزق الهنود الوحيد. فهم من جهة أخرى لا يريدون التمادي في إغضاب الاميركيين والأوروبيين بسبب حرصهم على جذب الاستثمارات الاميركية والأوروبية وحرصهم على استمرار وتنشيط المبادلات التجارية الضخمة ما بين الطرفين، ولا يريدون إغضاب الإسرائيليين الذين يزودونهم بالتكنولوجيا العسكرية المتطورة.

ولعل ما يبرهن على ان سياسات نيودلهي الخارجية دائما ما تراعي العوامل الداخلية وقت رسمها هو تأخر الهند طويلا في اقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع تل ابيب، إلى ما بعد فتح الفلسطينيين والعرب لقنوات اتصال مباشر مع إسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها. أما البرهان على محاولتها بأن تكون برغماتية حيال القوى العظمى، فنجده في توقيعها على اتفاقية نووية للأغراض السلمية مع واشنطن، ثم محاولاتها التملص من تبعات الاتفاقية التي يقال أنها شملت بنودا سرية تجعلها تلعب دورا لصالح واشنطن في مواجهة القوة الصينية المتعاظمة في جنوب وجنوب شرق آسيا. هذا ناهيك عن استمرار علاقاتها العسكرية الوطيدة بموسكو التي كانت حليفة استراتيجية لها زمن الحرب الباردة.

نأتي الآن لتناول المأزق الآخر عند الهنود، وهو كيفية دفع قيمة فواتير وارداتهم من الخام الإيراني. فخلال العامين الماضيين راحت الهند تبحث عن آلية مناسبة للخروج من هذا المأزق الناجم عن حزمة العقوبات المفروضة على طهران. والمعروف أن الهند كانت حتى 2010 تستخدم في دفع فواتيرها النفطية تسهيلات الدفع الآسيوية التي رتبتها عام 1974 لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لآسيا والباسفيكي، من أجل مساعدة الدول الآسيوية النامية على الاقتصاد في مخزونها من احتياطيات النقد الأجنبي. وبموجب هذه الخطة كان مسموحا لتلك الدول أن تبيع وتشترى من بعضها البعض بالمقايضة او باستخدام وحدات النقد الآسيوي المرتبطة بالدولار. لكن ابتداء من ديسمبر 2010 ، قررت نيودلهي بضغط من واشنطن أن تتخلى عن الآلية المذكورة، واصدر مصرفها المركزي تعليمات مشددة بضرورة أن تكون كل المبادلات التجارية مع إيران بأية عملة أجنبية صعبة. وهكذا صارت الهند تتاجر مع إيران مذاك من خلال آلية دفع معقدة، وتستخدم مصرفا إيرانيا - أوروبيا في مدينة هامبورغ لتسوية حساباتها مع الطرف الايراني بعلم وإشراف البنكين المركزيين الالماني والهندي. وبهذه الوسيلة لم تخرق الهند العقوبات الأممية ضد إيران، كما أن واشنطن تحققت من خلالها بأن الأموال التي تدفعها الهند لقاء الخام لا يستخدم في تمويل البرنامج النووي الإيراني. غير أن شكوكا حامت حول وجود تلاعب في المصرف المذكور، الأمر الذي جعل واشنطن تضغط على برلين لعمل شيء ما، إلى أن أثمرت تلك الضغوط بحلول ابريل 2011 في قيام الأخيرة بضرب حلقة الاتصال التجاري الوحيدة بين الهند وإيران. هنا جاء دور مصرف هالك بانك التركي ليحل مكان المصرف الاوروبي الايراني، خصوصا وأن أنقرة سمحت لهذا المصرف (تمتلك الدولة 75 بالمائة من أسهمه) بالعمل كقناة ما بين إيران والدول المتعاملة معها تجاريا، ناهيك عن أنها في الوقت الذي تعهدت فيه بتطبيق العقوبات الأممية لعام 2010 ضد إيران، فإنها رفضت توسيعها كما أراد الأميركيون والأوروبيون.

خلال الاسابيع الاخيرة جرى حوار مكثف بين طهران ونيودلهي بغية ايجاد وسيلة للالتفاف حول الحظر المفروض على النظام المالي الايراني، خصوصا وأن الهند لا تتمتع بما تتمتع به الصين لجهة مرونة عملتها (اليوان) وقدرة اقتصادها الضخم على المناورة. وفي بدايات الشهر الجاري، أعلن الطرفان عن توصلهما إلى اتفاق يقضي بأن تدفع الهند 45 بالمائة من قيمة فاتورتها النفطية بالروبية الهندية، على أن تودع هذه المبالغ في فروع مصرفين إيرانيين خاصين بمدينة كلكتا. أما الباقي فيسدد في فترة لاحقة، على أمل أن تتغير الظروف. لكن هناك شكوكا تحوم حول نجاح الاتفاقية، مصدرها أن الهند تفرض ضرائب بنسبة 40 بالمائة على الأموال الأجنبية المجمدة في مصارفها. وهو ما دعا بعض الإيرانيين بمقايضة النفط بالقمح أو الأرز الهندي.