عندما تجاوز حجم الدين العام الداخلي الـ131 مليار ل.ل. في أيلول 1987 وحجم الدين العام الخارجي إلى 75 مليار ل.ل. وقدر عجز الموازنة العامة لعام 1988 بـ38,300 مليار ل.ل. ساهم مصرف لبنان بـ56 مليار ل.ل. لتمويل هذا العجز المتراكم بقروض استثنائية واكتتابات في سندات الخزينة مما أدى إلى زيادة الكتلة النقدية وإلى ارتفاع حاد في مؤشر الاسعار ومعدلات التضخم وإلى احجام الدول العربية والأجنبية عن تقديم اية مساعدة مالية إلى لبنان، وحين اخفقت جهود الحكومة اللبنانية في الحصول على قروض او مساعدات أو هبات من الخارج تطلع بعض خبراء الاقتصاد والمال والنقد الى مخزون الذهب بهدف تسييله إلى عملات صعبة لتغطية عجز الخزينة وتغذية مخزون القطع. وهنا حصل انقسام بين دعاة التسييل ودعاة التجميد:
1ـ دعاة التسييل: طرح فكرة التسييل رئيس المجلس الوطني للعلاقات الاقتصادية الخارجية آنذاك بعدما تأزمت الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية وتدهورت قيمة الليرة الداخلية والخارجية ثم انبرى أحد خبراء الاقتصاد في الجامعة اللبنانية واقترح تحويل نصــف موجـودات الذهب إلى عملات صعبة او إلى سلة عملات تتمثل بوحدات حقوق السحب الخاصة على ان توظف في سندات خزينة صادرة عن الدول الصناعية الكبرى وبتاريخ 25/8/1986 صرح احد الخبراء في احدى الصحف المحلية بأن تجميد الاحتياطي الذهبي بالأسعار الحالية يعني تعجيز السلـطات النقدية عن انتهاج سياسة قطع تستند الى القدرة على مواجهة التقلبات في السوق.
2ـ دعاة التجميد: أشار المؤتمر الـ13 للاتحاد العربي لخبراء النقد المنعقد في أثينا 27 و29 حزيران 1986 إلى ما يلي:
أ ـ إن المساعدات العربية إلى لبنان من الدول النفطية لا يمكن استئنافها إلا بوفاق سياسي داخلي يحقق سلطة مركزية قوية موحدة ومؤهلة لاستلام المساعدات وقادرة على إنفاقها في نطاق إعادة الانماء والأعمار بدل إنفاقها على وسائل التدمير والتقسيم.
ب ـ إن المضاربة على الليرة اللبنانية نتيجة حتمية للانهيار الاقتصادي والسياسي ولاهتزاز الثقة بمستقبل النظام اللبناني.
ج ـ إن مخزون الذهب لدى المصرف المركزي هو السلاح الأخير بيد السلطات اللبنانية كافة لمواجهة أعباء ما بعد الوفاق السياسي الشامل واي مس بموجودات الذهب من شأنه إهدار الموارد الناجمة عن الرهن او البيع لذلك يتوجب الحفاظ على المخزون كأداة توحيد للاقتصاد اللبناني والسياسات المالية والنقدية والانمائية وكأداة توحيد للشعب اللبناني فالذهب له قيمة نفسية لا تتجدد إلا مع عودة الأمن والاستقرار السياسي.
بعد احتدام الآراء الداعية إلى التسييل او التجميد تدخلت السلطة التشريعية لحسم الجدل القائم فأقرت القانون رقم 42/86 بتاريخ 24/9/1986 وهذا نصه: أقر مجلس النواب مادة وحيدة والتي تتضمن النص الاتي:
"بصورة استثنائية وخلافاً لأي نص يمنع منعا مطلقا التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان او لحسابه مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته أكان ذلك بصورة مباشرة او غير مباشرة إلا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب".
ـ ردود الفعل:
أ ـ دعاة التسييل: ساءهم صدور هذا القانون لاعتقادهم أن التجميد حجب فوائد العملات الصعبة الناجمة عن التسييل وادى إلى عدم تغطية الجزء الأكبر من عجز الخزينة والانفاق العام الخارجي فضلاً عن ان المصرف المركزي هو المسؤول بأجهزته وقانونه عن إدارة السياسة النقدية وصدور القانون الرقم 42/86 يخالف مبدأ حصر السلطة النقدية بالمجلس المركزي إذ لا يجوز للسلطة التشريعية التعدي على صلاحيات السلطة النقدية إلا بموجب تفويض ضمني او صريح من قبل المجلس المركزي إلى المجلس النيابي ولو بادرت السلطات النقدية أوائل السبعينيات إلى بيع مخزون الذهب او بعضه لحصلت على مردود مرتفع من القطع الحر فالذهب يكلف الدولة بدل خزنه في الخارج ولو بيع آنذاك لاعطى فوائد سنوية مقدارها 600 مليون دولار كما ان ارتفاع أسعار الذهب في بورصة نيويورك عام 1981 إلى 870 دولارا للأونس تروي ثم انخفاض السعر إلى 315 دولاراً بتاريخ 20/3/1982 كان حافزاً قوياً للسلطة النقدية للاقدام بجرأة على بيع نصف المخزون بالسعر الأعلى واعادة شرائه بالسعر الادنى مما يضاعف حجم الموجودات خلال بضعة أشهر.
ب ـ دعاة التجميد: إن ثبات الاقتصاد اللبناني مرتبط بثبات مخزون الذهب وملاءته وبما انه لا يجوز المساس بحرية القطع لا يجوز المساس أيضاً بموجودات الذهب باعتبارها أساساً لوجود العملة الوطنية، ان موقف السلطة النقدية الذي اتسم بالحياد قبل وبعد صدور القانون ألقى التبعة على السلطة التشريعية وجنب المجلس المركزي مخاطر الانحياز إلى هذه الجهة او تلك فالمجلس النيابي قادر على حسم النزاع سلباً او ايجابا بين دعاة التسييل والتجميد حتى في أشد حالات الانقسام السياسي حول هذا الموضوع علما ان الحاكمية التي آلمها استنزاف مخزون القطع خلال الحرب الأهلية الذي افقدها امضى سلاح لدعم الليرة داخلياً وخارجياً تألمت من توجهات دعاة التسييل مهما كانت الأسباب والدوافع باعتبار ان فقدان سلاح واحد أخف وطأة على الاقتصاد اللبناني من فقدان سلاحين معاً.
لذلك نرى أن عدم المساس بمخزون الذهب منذ عام 1949 ولغاية تاريخه أكبر انجاز لحكومات لبنان المتعاقبة.
إن صدور القانون رقم 42/86 ترك مجالاً للاعتقاد أن الذهب ملك الدولة وهذا يستوجب تحديد الملكية بنص قانوني صريح علماً ان تقيد حكومات لبنان بأحكامه قد جنب النظام السياسي والاقتصادي الضربة القاضية للجهود والرامية إلى توحيد الشعب والدولة وادى إلى عدم تسليم أجهزة الدولة آخر الاحتياطات لتهدر كما أهدر مخزون القطع بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 الأمر الذي جعل من مخزون الذهب عام 2011 ثروة وطنية بإمتياز (قيمتها الاجمالية حوالى 17,500 مليار دولار) مما يشير إلى ان لبنان يملك من التغطية الذهبية لعملته الوطنية نسبة 28% من اجمالي ما تملكه 22 دولة عربية مجتمعة من هذا المعدن (المرتبة الثانية بعد المملكة العربية السعودية) وهذه النسبة تعادل أكثر من ثلث حجم الاقتصاد اللبناني حالياً.
باحث في الشؤون الاقتصادية