نشرت مجلة "فورين بوليسي (السياسة الخارجية)" الاميركية مقالا اعده رئيس فريق الشرق الاوسط في مؤسسة "نيو اميركا فاونديشين" دانييل ليفي تناول فيه بالتحليل تداعيات استقالة السناتور جورج ميتشل من المهمة الخاصة التي اوكلها اليه الرئيس الاميركي باراك اوباما للتوصل الى حل للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. وفي ما يأتي نص المقال:
"ما أن طرق سمعي نبأ استقالة السناتور (الاميركي) جورج ميتشل كموفد خاص لاحلال السلام في الشرق الاوسط، حتى بعثت ذلك النبأ في رسالة عاجلة الى صديقة لي في اسرائيل عرف عنها سخريتها اللاذعة. فجاء ردها سريعا ولم يخيب الامال بان "ميتشل لا يزال المبعوث، من يدري؟"
لقد شهد الشرق الاوسط في الفترة الاخيرة حراكا كبيرا، لم يترك المعادلة الفلسطينية - الاسرائيلية من دون ان يمسها. الا ان البعوث الخاص لاحلال السلام في الشرق الاوسط لم يقم بزيارة الشرق الاوسط منذ منتصف كانون الاول (ديسمبر).
كان السناتور ميتشل مهتما بتذكير الجمهور انه في اخر محاولة كمبعوث سلام أمضى وهو يعمل في قضية ايرلندا الشمالية مدة "700 يوم اتسمت بالفشل، ويوماً واحداً من النجاح". لكن استقالة ميتشل جاءت في اليوم الـ842 من أيام الجهد من اجل سلام الشرق الاوسط، الا ان تلك الايام لم تشهد "أيام نجاح". وكان تعيين ميتشل في الاصل قد صدر في اليوم الثاني لتولي اوباما السلطة، ورحبت به بعض الدوائر بدرجة بسيطة من الحماسة والامل (ومنهم كاتب المقال). وفي العام 2001، بينما كان يحظى بدعم قوي من الفريق الذي يعمل معه، نشر تقرير لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق، وهو تقرير يستحق الثناء لما فيه من تحليل عميق ودقيق. ويصعب على المرء الا يستننتج ان ميتشل كان في ذلك الوقت يشعر بخيبة الامل.
ولا يجوز ان يُصب اللوم كله على عتبات ميتشل بطبيعة الحال. فارسال مبعوث لمواجهة مشكلة ما، حتى وان كان سجله متميزا، ليس بديلا لسياسة استراتيجية ذكية. ويبدو ان اول هفوة لادارة اوباما في قضية سلام الشرق الاوسط تعودى الى الفشل في التروي واجراء مراجعة للجهود التي بُذلت حتى ذلك الوقت، ولماذا غرزت الامور، وان تُدرس العيوب الهيكلية في مسيرة السلام التي ورثوها.
وحتى الان فان التفسير الرسمي يعزو استقالة ميتشل الى "اسباب شخصية". الا انه على ضوء توقيت الاستقالة، التي جاءت قبل ايام من خطاب الرئيس المنتظر بشأن الشرق الاوسط ومن زيارة حظيت بتوقعات كثيرة لزيارة رئيس الوزراء (الاسرائيلي) بنيامين نتنياهو (الى الولايات المتحدة) فان من غير الطبيعي التكهن بما يمكن أن يكون وراء هذه الاستقالة خلاف ذلك.
هناك سببان واضحان يبرزان من تلقاء نفسهما، مع احتمال وجود سبب ثالث يدخل في نطاق مخالف للحدس. فالسناتور ميتشل هو من طراز الرجل المفاوض، وتلك هي مهاراته وخلفياته القانونية. ولعله لم يشعر بان ثمارا ستنضج من وراء المفاوضات، ولذا فانه ليس هناك من سبب يدعوه لمواصلة مهمته. وقد يدعي البعض ان اتفاق المصالحة الذي وقع عليه الفلسطينيون، بمن فيهم "فتح" و"حماس"، افسد احتمالات استئناف التفاوض. ولا يحتاج المرء الى ان يغمض عينيه لكي يتوصل الى مثل هذا الادعاء. فخلال فترة عمل هذه الادارة على مدى عامين، كان الفلسطينيون والاسرائيليون في حالة تفاوض استمرت لـ30 يوما، بينما تخلوا عنها لـ813 يوما.
وتوصلت منظمة التحرير الفلسطينية، وقد استغرق ذلك بعض الوقت، الى ان الدخول في مفاوضات، في غياب اهداف محددة وعلى خلفية البناء الاستيطاني المتواصل، ليس مفيدا. وكانت اسرائيل سعيدة حقا بالنمط التفاوضي الحالي، رافضة اي تغييير في صيغتها باعتباره محاولة لا مبرر لها لفرض شروط مسبقة.
وهناك مسار آخر للتكهنات يضع المبعوث ميتشل مع الجانب الخاسر في نقاش سياسي داخلي ضمن الادارة – وما يقال هنا هو ان ميتشل دعا الى نهج اميركي اميل الى كونه في المقدمة، وقد يتضمن عناصر اطارية اميركية للمفاوضات في المستقبل.
وثالثا، فان تفسيرا بعيد الاحتمال لهذه الاستقالة ان الادارة تستغل اخر عمل لميتشل كمبعوث سلام، وهو الاستقالة، كوسيلة لنقل رسالة اساسا الى رئيس الوزراء الاسرائيلي مفادها انه اذا لم يكن على استعداد للتخلي عن حيله بوسيلة جادة، فان الولايات المتحدة بدورها ستتراجع (وهو ما قد يدفع رئيس الوزراء الاسرائيلي الى اعادة التفكير بامكان نجاح الخطوة الفلسطينية للمطالبة باعتراف الامم المتحدة بدولتهم في ايلول/ سبتمبر). وقد تناثرت هذه الاشاعات لفترة من الوقت قبل تخلي ميتشل عن مهمته. ولعلهم كانوا في انتظار لحظة تحقيق اقصى حد من التأثير، وسنأتي على المزيد من ذلك في ما بعد.
وامام الادارة في مسيرتها اربعة خيارات اساسا للتعامل مع الملف الفلسطيني- الاسرائيلي:
1- الدور القيادي – خطوة اميركية جريئة للاعلان عن حل او على الاقل الموافقة على حدود العام 67 بما يسمح بتبادل متعادل للاراضي بحيث يحقق قيام دولتين. وقد يتطلب ذلك خطة اميركية، ومداهنة اميركية، وتقييما جديدا لكيفية قيام الولايات المتحدة بتطبيق الحوافز مقابل عدم وجود حوافز امام الطرفين، ما يتطلب درجة من الصبر والالتزام على مدى الزمن للسماح بالنقاش الداخلي لدى جماهير كلا الجانبين.
2- "القيادة من الخلف" – أن تقر الادارة بمجال المناورة المحدود لديها في ما يتعلق بهذه القضية، اخذة في الاعتبار سياساتها الداخلية، وان تسمح بتقارب اوسع متعدد الاطراف للتوصل الى انهاء الاحتلال والامن للجميع. وقد يدعو ذلك الى توسيع مهمة اللجنة الرباعية والامم المتحدة.
3- الالتزام بما تريده اسرائيل – ان تقوم الادارة بتوفير الدعم العملي والتغطية الدبلوماسية لأي اسلوب لادارة الصراع تختاره اسرائيل، وهذه حقيقة الامر الواقع التي سادت لسنوات عديدة كثيرة.
4- الانسحاب الاستراتيجي – ان تقوم الولايات المتحدة بتخفيض مشاركها الفعلية في "مسيرة السلام" باساليب تدريجية مدروسة. وبذا يكون الطرفان اقل قدرة على الاحتماء وراء الولايات المتحدة، وهي خسارة من المحتمل ان تشعر بها اسرائيل اكثر من الجانب الفلسطيني.
ان خياري "الدور الرئيسي" و"القيادة من الخلف" يعانيان من قصور سياسي محلي متماثل، اما ثمن "الالتزام بما تريده اسرائيل" فانه يستمر في التفاعل على هامش ملف الاضرار بمصالح الامن القومي الاميركي. اما الانسحاب الاستراتيجي فانه بحد ذاته يكاد يكون خاليا من التكلفة. اذ تظل اميركا تقف الى جانب حليفتها اسرائيل وتتلقى اللوم لانها لم تستخدم نفوذها. لكنه خيار لا يستديم مع الايام. الا ان الانسحاب الاستراتيجي قد يكون، في ظل خلطة الظروف الحالية، خيارا موقتا مثيرا للاهتمام.
وفي الظروف الاعتيادية، قد يرحب اي زعيم اسرائيلي يميني بازاحة هؤلاء الاميركيين المزعجين عن ظهره، الا ان الوضع اليوم ليس كذلك. فنتنياهو يريد الان معونة اوباما لتحاشي احراج سياسي ومشاعر دبلوماسية للنتائج التي ستتوصل اليها الامم المتحدة في ايلول (سبتمبر). ونظرا لان الفلسطينيين ينوون نقل القضية الى الجمعية العامة للامم المتحدة، فان التصويت بـ"لا" الاميركية لن يكون كافيا. وتأمل اسرائيل من الولايات المتحدة ان تمنع اي عملية تصويت في الامم المتحدة.
اذن هل يمكن ان يكون الهدف من توقيت اعلان الاستقالة ان يكون زرع بعض الشكوك في حسابات نتنياهو، تحثه على ان يعلن عن شيء ذي معنى خلال زيارته؟ قد يكون الامر كذلك. الا ان الادارة يمكن ان تدرس تقاربا على ضوء هذه الخطوط. ولا بد لمثل هذا التقارب ان يكون محدودا من حيث المدة الزمنية. فالولايات المتحدة، من اجل خدمة مصالحها الخاصة، لا تريد ان تجد نفسها معزولة وغير موثوقة في اي عملية تصويت في الامم المتحدة، خاصة اذا كانت تلك العملية بالحجم الذي يحيط بالاعتراف بدولة فلسطينية. ومع اقتراب أيلول (سبتمبر) فان تهديد نتنياهو بهذا الشكل يماثل وصول مفوض شرطة بلدة "روك ريدج" في فيلم "بليزنغ سادلز" (السروج المشتعلة) الكلاسيكي للممثل ميل بروكس واخذ نفسه رهينة تحت تهديد السلاح.
اخيراً، اين يترك هذا كله خطاب الرئيس المزمع عن الشرق الاوسط؟ يبدو ان الخطاب لن يتركز على الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني وانه لن يكون براغماتياً بعرض حل للصراع. وسيكون الخطاب عن المنطقة ومن المؤكد ان هناك ما يكفي (من لمواضيع) للحديث عنه من دون الدخول في تفاصيل دقيقة عن الوضع الاسرائيلي-الفلسطيني. ومع ذلك فان من غير الممكن اهمال اسرائيل-فلسطين. ان هذا الصراع يبقى منظاراً ترى المنطقة والعالم الاسلامي من خلاله الولايات المتحدة، وهو امر قدره بحراره جميع القادة الحديثين للقيادة (العسكرية) المركزية (الاميركية). والتظاهر بأن ما يسمى الربيع العربي يثبت غير ذلك هو خداع للنفس، يغفل عمليات مسح عديدة للرأي العام العربي، ويتجاهل تغييرات اخذت تحصل فعلاً في السياسة المصرية تعطي اسرائيل شعوراً بالارتياح، خطيراً وباطلاً.
ان بوسع الرئيس اوباما ان يستخدم ذلك الخطاب لينقل الى مستوى اعلى تلك القناعات التي بدأ يتحدث عنها بايجاز في خطابه في القاهرة في 2009. فالرسالة السابقة عن الكفاح من اجل الحقوق المدنية يمكن رفعها لدرجة اخرى، مع تركيز رد فعله تجاه اتفاق الوحدة الفلسطينية على الحاجة الى عدم العنف، مع الاقرار في الوقت نفسه بالاحتجات الفلسطينية الحالية اللاعنفية ودعوته اسرائيل الى التزام القيم الديموقراطية في رد فعلها تجاهها. وقد يشير الرئيس الى ضرورة الاستعجال في احراز تقدم حقيقي بالنظر الى البيئة الاقليمية المتغيرة. ويمكن ان يستند حتى الى تجربة مبعوثه السابق السناتور ميتشل عندما يحاول التوصل الى اتفاق بشأن تجميد الاستيطان. وقد يسأل، في سياق اقراره بمدى صعوبة تجميد، ناهيك عن اخلاء، مستوطنات بالنسبة الى اسرائيل، ما هي الخيارات البديلة وهل هي الافضل: مثلاً، بقاء مستوطنين كمقيمين في دولة فلسطينية ذات سيادة ضمن حدود العام 1967 وماذا سيقدم الاسرائيليون مقابل مثل هذه النتيجة (عودة لاجئين فلسطينيين الى اسرائيل كمقيمين؟)، ام هل يفضل الاسرائيليون اقتسام دولة واحدة ديموقراطية، ما سيسمح لجميع المستوطنين بالبقاء حيث هم؟
عبر اربع ادارات اميركية وعلى مدى 20 عاماً، يتبلور افتراض بشأن كيف ستبدو نتيجة تتضمن دولتين. ومع ذلك فن هذه النتيجة لم تطبق وهي ستتطلب اليوم سحب 100 الف مستوطن على الاقل. وسيكون سؤالا صادقاً وفي توقيت مناسب السؤال عما اذا كان هذا الافتراض ما زال قائماً. وربما يجد الاسرائيليون خيار الدولتين القديم ذاك اكثر جاذبيةً عندما يوضع في مثل هذا السياق.
وثمة امر قد لا يشغل الرئيس اوباما نفسه به اكثر من اللازم، الا وهو استباق خطاب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس يوم 24 ايار (مايو). نعم، سيقابل نتنياهو بعاصفة من التصفيق (من المحزن، ان هذا سيحدث حتى لو قرأ نتنياهو دليل الارقام الهاتفية، بالعبرية). ولكن من غير المرجح ان ان يعرض أي شيء جوهري لتغيير مسار التطورات في الاشهر المقبلة. وقد يريد اعضاء الكونغرس الحاضرون التأمل في حقيقة انه عندما نال نتنياهو شرف مخاطبة كلا مجلسي الكونغرس في 1996، كان هناك 140 الف مستوطن في الضفة الغربية وحدها. وعندما يلقي خطابه هذه السنة، سيكون هذا الرقم قد تجاوز الضعفين وزاد عن 300 الف مستوطن.
واذا ما قرر الرئيس انه يريد ان يتقدم ليقود، فسيكون هناك الكثير من الوقت قبل ايلول (سبتمبر)، ووقت كاف لالقاء خطاب اكثر تفصيلاً عن الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني. وكما قال ذلك المبعوث السابق، فان المرء لا يحتاج الا "يوم نجاح واحد".