هيغل.. ينظر الى العمارة نظرته الى الفنون الجميلة والآداب

تاريخ النشر: 23 مارس 2005 - 10:52 GMT

ابراهيم العريس الحياة«وكما حولت الزراعة الحياة البدوية الى طراز من الحياة المستقرة والحضرية، ساهمت القبور والأضرحة وتبجيل الموتى، في جمع شمل البشر وصارت، حتى بالنسبة الى اولئك الذين لا يعيشون حياة مستقرة لانعدام وجود الملكية عندهم، اماكن للاجتماع، اماكن مقدسة يذاد عنها ولا يراد لها، مهما غلا الثمن ان تسقط في يد الغير». يرد هذا المقطع في الكتاب الخاص بـ "فن العمارة" من موسوعة هيغل الفريدة من نوعها في «علم الجمال». فهيغل الذي عزا الى العمران، ولا سيما عمران المدن اهمية فائقة في مجمل ابحاثه الفلسفية وفي كتاباته عن فلسفة التاريخ، كان لا بد له من ان ينظر الى العمارة نظرته الى الفنون الجميلة والآداب، باعتبارها ابداعاً قائماً في ذاته. ويبدو هذا الأمر حتمياً، بخاصة، لمن يتذكر من بين تأكيدات فيلسوف ألمانيا الكبير، قوله عن ان مواطن الحاضرة اليونانية، بحثاً عن الخلود وما – بعد – الموت الذي ما توقفت فكرته عن مداعبة الإنسان منذ هاله الموت ووقف حائراً امام لغزه، يتساءل عما اذا كان ثمة شيء ما بعده، هذا المواطن كان – قبل استشراء الإيديولوجيات وحتى قبل الأديان التوحيدية التي تحدثت بوفرة، عن البعث والماوراء والجنة والنار كإجابة واضحة عن تساؤلات الموت والخلود – كان يعتبر ان بقاءه في هذا الكون، بعد موته، إنما يتأمن من طريق بقاء مدينته واستمرارها. وهكذا كان يضم جهوده الى جهود كل البناة، سواء اكانوا مهندسين او عمالاً يدويين او حتى ممولين او متفرجين مشجعين، ليؤمن للمدينة رفعة وقوة وديمومة تتحقق بفضل فخامة المباني وضخامتها وقوتها، وجغرافيتها، والمكان الذي تحتله في الحياة اليومية للجماعة، وفي السمات الجمالية للمدينة نفسها.

· وإذا كان هيغل اشار الى مثل هذه الأمور، وإلى اهمية المدينة وعمرانها في حياة

المرء، فإنه هنا، في هذا الكتاب الذي كرسه كله لفن العمارة، توسع في موضوعه، ولكن ليس فقط في مجال حديثه عن المواطن ورغبته في التوحد مع مدينته، دنيا وآخرة، بل كذلك في مجال حديثه المستفيض حول تاريخ نشوء المدينة العمرانية, وتاريخ تطور ارتباطها بالتطورات التي طرأت على الفنون الجميلة، بحيث صار ثمة – في نهاية الأمر – «عمارة مستقلة او رمزية» ثم «عمارة كلاسيكية» فـ»عمارة رومانسية» وصولاً الى العمارة القوطية والعمارة الدنيوية في العصر الوسيط... علماً أنه كان من الطبيعي ان يتوقف توصيف هيغل التاريخي والموضوعي، عند حدود زمنه، أي بدايات القرن التاسع عشر.

· غير ان هذا الانحصار الزمني المنطقي لا ينفي كون التواريخ – والنظريات المصاحبة لها – التي عرضها هيغل يصلح كمنهج عام لبحث قضية العمارة والعمران، ودائماً من منظور فلسفي اجتماعي، لأن هيغل، على رغم تفاصيل بحثه التاريخية، لا ينسى لحظة في نصه انه – اولاً وأخيراً – فيلسوف, وأن التحليل مطلوب منه اكثر من التوصيف والاستعراض التاريخي. ومن هنا نراه منذ مدخل الكتاب يحدد لنا ان «المكان الأول في منظومة الفنون الخاصة يعود الى فن العمارة». فالعمارة – في رأيه وبحسب ترجمة جورج طرابيشي الذي نقل كل اجزاء «علم الجمال» الى العربية لتصدر في دزينة من الكتب – «تمثل بدايات الفن، لأن الفن في بداياته لا يكون قد وجد بعد، للتعبير عن مضمونه الروحي لا المواد المناسبة ولا الأشكال الموافقة، ما يضطره الى الاكتفاء بمجرد البحث عن التطابق الحقيقي والى الارتضاء بمضمون ونمط تعبير – او تمثيل – خارجين صرفين. اما المواد التي يُصنع بها هذا الفن الأول فهي خالية من كل روحية. هي الماد الثقيلة، الخاضعة لقوانين الثقالة، اما الشكل فقوامه الجمع بصورة متناظمة ومتناظرة بين تشكيلات الطبيعة الخارجية. وتحقيق كلية العمل الفني هنا يجعله، اخيراً، محض انعكاس للروح».

· من الناحية التأريخية، بعد ذلك، يفيدنا هيغل اننا «في معرض بحثنا عن البدايات الأولى للعمارة، نلتقي اولاً الكوخ، مسكن الإنسان, والمعبد كملاذ للألوهية ولجماعة المؤمنين. ويلاحظ هيغل هنا ان البحوث التاريخية في فن العمارة ركزت على الفروق القائمة بين المواد التي يمكن ان تكون استخدمت في البناء الأول»، فهل كانت البداية بالخشب او بالحجارة؟ ويقول هيغل هنا ان مسألة التحديد لا تخلو من اهمية «إذ لا يتعلق الأمر، كما قد يبدو للوهلة الأولى، بمواد خارجية وحسب، بل كذلك بأشكال معمارية تتنوع تبعاً للمواد المستعملة، مثلما يتنوع تزويق هذه المواد». وبعد هذا يؤكد هيغل ان «السمة المميزة الأولى للمأوى – الكوخ – وللمعبد، ولغير ذلك من الأبنية، هي كونها وسائل برسم هدف خارجي». وستظل هذه السمة حاضرة ودائمة في العمارة على الدوام، بخاصة ان هيغل «يعيد الى الأذهان هنا» ان العمارة لا تستطيع التعريف بمدلولاتها إلا في المحيط الخارجي... وعليه - يقول هيغل – اذا كان الفارق بين الإنسان او صورة الألوهية التي هي بحاجة الى حرم، وبين المبنى المخصص لتلبية هذه الحاجة لا وجود له، بعد، في الأصل» فإن علينا في هذه الحال ان «نبحث عن ابنية لها – نظير اعمال فن النحت – وجودها المستقل السؤددي، ابنية لا تستمد مدلولها من هدف او حاجة خارجية، بل تحمله في ذاتها...».

· بعد هذا الكلام التنظيري العام، يندفع هيغل في استعراض تاريخ العمارة. ويبدو لافتاً في شكل خاص توقفه عند العمارة الكلاسيكية حيث نراه، منذ البداية يحدد ان السمة الأساسية لهذه العمارة، هي التكيف مع هدف محدد، يجعل من تواؤم المبنى بداخله وخارجه، مع الهدف امراً محتماً. وهو في معرض برهنته على هذا يأخذ البيت كنمط اساس، حيث تحكم اهداف عمارته كونه اكثر حرية من العمارة الرمزية، التي كان يغلب عليها طابع روحي ما... فالعمارة الرمزية «تستعير اشكالها من الطبيعة العضوية» فيما «تجد العمارة الكلاسيكية مضمونها في اهداف روحية لكنها تعطيه شكلاً تبتكره ملكة الفهم البشري، بصرف النظر عن كل نموذج مباشر وبصورة مستقلة عنه». ويلاحظ هيغل في هذا الإطار ان «الحرية في هذا الإطار نسبية ولا تطاول إلا مجالاً محدوداً» بخاصة أن تأمل العمارة الكلاسيكية، يبرز على الفور «طابعها الجاف المعزو الى عقلانية اشكال هذه العمارة». ولا يفوت هيغل، في هذا السياق بالذات ان ينقل عن زميله ومواطنه شلنغ قوله ان «العمارة موسيقى متجمدة» شارحاً ان كلا الفنين, العمارة والموسيقى، يقوم على اساس من تناغم العلاقات القابلة لأن ترجع الى اعداد، ما يسهل بالتالي ادراكها وعقلها في سماتها الرئيسة».

· ومن الواضح هنا ان جورج فلهلم فردريش هيغل (1770 – 1831) يبدي اكبر قدر من الإسهاب والتعمق في دراسته لهذا النمط الكلاسيكي من العمارة، لأنه النمط الأكثر تماشياً مع نزعته الفكرية والعقلانية، حتى وإن كانت مثاليته، من ناحية ثانية تقربه اكثر من الفن الرمزي ذي السمات الروحية البيّنة والتي، من ناحية ما، قد تبدو اكثر ملاءمة له. وهيغل هو بالطبع فيلسوف العقلانية والروح معاً، الأكبر في العصور الحديثة، يتجلى ذلك بالطبع في اجزاء «علم الجمال» ولكن ايضاً في «فينومينولوجيا الروح» و»فلسفة التاريخ» و»موسوعة العلوم الفلسفية» وغيرها من كتب صنعت له مكانته الكبرى في تاريخ الفلسفة. 

 

الاشتراك

اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن