هنري ترويّا.. يروي تاريخ روسيا

تاريخ النشر: 31 مايو 2005 - 09:24 GMT

لم يكن كارل ماركس مخطئاً حين كان يقول انه أبداً لا يتوقع لروسيا أن تصبح الدولة الاشتراكية الأولى في العالم... ذلك ان للشعب الروسي خصوصية تجعل أن تنظيراً، من الصعب أن ينطبق عليه. ومن هنا، حين أراد لينين لاحقاً أن يفهم هذا الشعب حقاً، وجد لزاماً عليه أن يراجع مئات المؤلفات ويستغرق ألوف الأحداث... ولكن خصوصاً أن يقرأ الأدب الروسي على اعتباره المكان الذي تمكن أكثر من أي مكان آخر من فهم روسيا وشعبها. طبعاً «خاب» توقع كارل ماركس وتحققت «اشتراكية» في «روسيا أولاً» قبل أن تنهار بعد ثلاثة أرباع القرن... لكن الثمن كان باهظاً... الثمن الذي دفعه الشعب الروسي تحديداً. واذ نعود الى الأدب هنا، يمكننا أن نقول ان هذا الأدب هو القادر، أيضاً، على اطلاعنا، ليس فقط على سبب تحقق الاشتراكية في روسيا، وكذلك على أسباب انهيارها... والتوضيح بأنها أبداً لم تكن طوال عقود حياتها، سمة أساسية دخلت شرايين الشعب الروسي. والى هذا الأدب تنتسب بالطبع أعمال الكاتب هنري ترويَّا. طبعاً، وهذا معروف، هنري ترويَّا، فرنسي ويكتب بالفرنسية. لكنه روسي الأصل وروسي الهوى... ومن هنا، فإن كتاباته تضم بعض أفضل كتب السيرة التي تناولت حياة كبار الكتّاب الروس وأعمالهم، من دوستويفسكي الى تولستوي ومن بوشكين الى تورجنيف. غير أن ترويّا لم يكتف بمثل هذا النوع من الكتب، بل خاض أيضاً في مجال الرواية، وغالباً بنفس لا يقل ملحمية واسهاباً عن نفس جدوده من كبار الكتّاب الروس. أما العمل الأبرز بين روايات ترويّا، فهو بالتأكيد ثلاثينيته «ورثة المستقبل» التي أنجز كتابتها أواخر ستينات القرن العشرين وصدرت في ما مجموعه ألف صفحة.

> تتألف هذه الرواية من أجزاء تحمل العناوين: «الكراس» و»مئة ضربة مدفع وضربة» و»الفيل الأبيض». واذا كان ترويّا يهتم في هذه الرواية بما لا يقل عن ستين عاماً من التاريخ الروسي، فإنه حرص على أن تبدأ هذه السنوات مع حكم الكسندر الثاني لتنتهي عشية الحرب العالمية الأولى. ومن هنا اذا كان للثوريين دور كبير في اجزاء الرواية الثلاثة، فإنهم سيظلون ثوريين «انقياء»، في معنى ان السلطة وبناء الدولة لن تكون، بعد، قد قضت على أحاسيسهم الثورية.

> وهنري توريّا، يروي لنا معظم هذه الأحداث، من وجهة نظر النبيل الروسي الشاب فيساريون وخادمه، العبد السابق، كليم... علماً أن كليم هذا هو الذي يروي الأحداث ويسجلها وينقلها الينا، منتقلاً من الحقبة التي شهدت الصعود البطيء للحركة الثورية الروسية، الى فترة الاعتقالات الجماعية للثوريين أيام اشتد القمع القيصري، وصولاً الى المنفى في فرنسا. واذا كان كليم يهتم بأن يروي لنا هذا كله، فما هذا الا لأن سيده فيساريون يعيش كل تلك الأحداث، مستدخلاً فيها بأفكاره الثورية وأحلامه, بخيباته وهزائمه. واللافت هنا هو أنه اذا كان كليم يشارك بدوره في الأحداث الثورية، فإنه لا يفعل هذا عن أي قناعة، بل لولائه لسيده وايمانه به. وتلك واحدة من المفارقات الأساسية في هذا الكتاب. ولكن خصوصاً في دينامية الحركة الثورية الروسية... اذ في الوقت الذي تقوم الحركات الثورية كلها باسم الضعفاء والفقراء والمتروكين لمصيرهم، من أمثال كليم، فإن كليم لا يبدو مبالياً بذلك كله. همّ كليم منصبّ فقط على سيده. هو «ثوري» لأن سيده «ثوري»... لا أكثر ولا أقل.

> كليم، هو، كما تقدمه لنا الرواية، دليلنا في تلك الرحلة الشيقة وسط تلك المراحل من الحياة الروسية. فهو، على رغم كونه عبداً سابقاً، يعرف القراءة والكتابة، ومن هنا نجده يدوّن ملاحظته على ما يمر به، أو بالأحرى ما يمر بسيده ومن ثم به هو، من أحداث. ذلك أن ليس ثمة أحداث في حياة كليم غير أحداث سيده. وهنا أيضاً ليست المسألة مسألة عبد وسيد. فكليم يحب سيده ويؤمن به ولذا يعيش حياته. ترى أفلا يمكننا أن نرى في هذه العلاقة كناية عن علاقة فئات عريضة من الشعب الروسي في ذلك الحين بالمتميزين والثوريين من أسيادهم؟

> المهم أن المؤلف يسير بنا، عبر رؤية كليم هذه، عبر تلك المراحل من التاريخ الروسي، متوقفاً عند بعض المفاصل المحورية من ذلك التاريخ... محولاً كل مفصل من هذه المفاصل الى لحظة درامية روائية كبرى، وجد بعض النقاد انها تحاكي بعض أجمل لحظات «الحرب والسلام» لتولستوي. وعبر مثل هذه المفاصل يسعى الكاتب الى التوقف، خصوصاً، عند تتابع نضالات الحركات الثورية المختلفة، التي كانت لها اليد الأولى في تحركات الشارع وفي الثورات وحتى في الاغتيالات قبل أن تستتب الأمور في نهاية الأمر الى الشيوعيين. وهكذا على مدى صفحات الرواية، في أجزائها الثلاثة، نكون أول الأمر ازاء العدميين ليذكرنا ترويا بأن اسمهم الأصلي «نيهيليست» انما كان من ابتكار ايفان تورغيف في روايته «آباء وأبناء»، ومنهم ننتقل الى الشعبويين (النارودنيين) الذين كان أول ما فعلوه حين ظهورهم وظهور رغباتهم الثورية، ان توجهوا الى أوساط الريف بغية تنظيم الفلاحين وتحويلهم الى وفود للحركات الثورية. ونحن هنا نشهد، من طريق كليم، اخلاص كل هؤلاء لقضيتهم... ولكننا نشهد أيضاً فشلهم الكبير الذي كان في خلفية ولادة الحركات الارهابية وسلسلة الاغتيالات التي لن تتوقف. وفيساريون، متنقلاً بين المواقف والجماعات، سيكون هنا في عداد حفنة من ثوريين راحوا يعدون القنابل ويفجرونها ساعين من وراء ذلك الى بث سياسة ذعر تربك المجتمع والسلطات وتمكنهم من تحقيق حلمهم الثوري. ولكن كليم، الذي يراقب هذا كله ويشارك فيه، ينبهنا منذ البداية الى أن هذا الأسلوب لن يحقق في نهاية الأمر أي نجاح، بل سيكون وبالاً فقط على أولئك الذين يزعم هؤلاء الثوريون أنهم يعملون من أجلهم.

> ومع هذا ستنجح مجموعة تألفت بعد اخفاق المجموعات الارهابية الكثيرة، وأطلقت على نفسها اسم «ارادة الشعب» في اغتيال القيصر نفسه. وهنا إثر هذه العملية، يتم القاء القبض على مجموعة الثوريين ومن بينهم النبيل فيساريون، وبالتالي يكون كليم في عداد المعتقلين. وهم هنا الآن في السجن... أما كليم فإنه الوحيد من بينهم الذي يشعر بالقلق والرعب في انتظار أن يحاكم... بل يحدث له أحياناً أن ينتحب حزناً على الديكتاتور المقتول، مبدياً خشيته من أن رد الفعل على قتله سيكون عنيفاً. وبالفعل تلي ذلك مرحلة قمع وجمود سياسي تتطور خلالها الحركات الثورية لتتجه صوب الماركسية... فيما يُنفى النبيل فيساريون وتابعه كليم الى فرنسا، ما يشكل احداث الجزء الأخير.

> لقد عرف هنري ترويّا (مولود في العام 1911) كيف يوازن في هذه الرواية الثلاثية بين الدراما والتاريخ، بين رواية الجموع ورواية الفرد... والحقيقة انه ما كان في امكانه فعل هذا لو لم يكن في الأصل وريثاً شرعياً لكبار كتّاب روسيا في القرن التاسع عشر... تدل على ذلك، كما أشرنا، السير التي كتبها لهم، ولكن خصوصاً رواياته الكثيرة التي سار فيها دائماً على نهج «ورثة المستقبل» متتبعاً التاريخ الروسي حقبة حقبة، ومنها سلسلة «ضوء العادلين» و»طالما بقيت الأرض» (وهما روايتان عن روسيا الديسمبريين وعن نهاية القيصرية والحرب الأهلية تباعاً). ومن أعماله الشيقة أيضاً رواية «غريمبوسك» عن مهندس فرنسي يعيش في سانت بطرسبرغ أيام بطرس الأكبر...ابراهيم العريس  الحياة.