قطر 2022... مونديال الموت!

تاريخ النشر: 27 أكتوبر 2013 - 01:50 GMT
البوابة
البوابة

"اسمه بيرومال، يبلغ من العمر 40 عاماً، وجاء من جنوب الهند إلى هنا"، هذا كل ما يتذكره عنه رفاق الغرفة الموبئة التي تشاطرها العامل الأسمر معهم في مدينة الخور على الساحل الشرقي لدولة قطر.

حط الرجل رحاله في المدينة التي تتنفس رياح الصحراء في يونيو، وأمضى صيفه إلى جانب رفاقه كادحاً في إحدى الورش التي بدأت تعج بها الإمارة منذ أن عهد إليها استضافة مونديال كرة القدم للعام 2022.

"حرمنا مستخدمنا من فترة الراحة بين الساعة 11.30 ظهراً والساعة 15.00 والتي يقرها القانون خلال الشهرين الأكثر حراً في العام، إذ تصل درجة الحرارة إلى 50 مئوية"، يقول أحد رفاقه السابقين.

لم يكن باستطاعة بيرومال النجار القادم من كيرالا حتى لو أراد، أن يغير عمله في قطر أو أن يعود إلى دياره، فقانون "الكفالة" في الدولة الأغنى في العالم من حيث الناتج المحلي للفرد (110 آلاف دولار في العام)، يمنع جميع العمال الأجانب بمن فيهم الوافدون من الغرب، من فسخ عقد العمل من دون موافقة ولي الأمر الذي غالباً ما يكون رب العمل نفسه.

 
من الحلم إلى الموت

وبالرغم من هذه القيود الخانقة، تشبث الرجل الكيرالي بأحلامه البسيطة الشبيهة بأحلام جميع العمال الأجانب الذين تفلح أياديهم في شبه الجزيرة العربية.
 
حلم بيرومال بإعالة عائلته التي تركها في الهند والعودة إليها بعد بضعة أعوام مع ما يكفي لتزويج ابنة أو بناء منزل.
 
ولكن القدر شاء عكس ذلك، ففي أحدى أمسيات سبتمبر الرطب، عاد الرفاق إلى الغرفة ليجدوا زميلهم الهندي ممدداً على فراشه وجسمه متصلب.
 
"اشتكى في الصباح من حرارة مرتفعة ورفض أن يستقل الحافلة"، هذا ما قاله المسؤول عن نقل العمال إلى ورشة البناء.
 
وأضاف: "اصطحبته إلى المستشفى حيث أعطوه الدواء ثم عدت به إلى البيت، وفي المساء، عندما رجعنا وجدناه ميتاً، أصيب بذبحة قلبية. جاءت سيارة إسعاف لنقله، ومنذ ذلك الوقت لم نسمع خبراً عنه".
 
إنه الموت المجاني مجهول الهوية، الذي "لا يذكر"... في كل عام، يعود المئات من العمال الذين يشكلون 80 في المئة من سكان الإمارة البالغ عددهم مليوني نسمة إلى موطنهم الأم في جنوب شرق القارة الآسيوية محملين في نعوش، فحياتهم غالباً ما تنتهي في المكان الذي يعتقدون أن فيه ستضحك لهم "الحياة" من جديد.
 
قام خبراء وفد الكونفدرالية الدولية للنقابات العمالية مؤخراً بزيارة للدوحة بغرض التحقيق في قضية العمال الأجانب على خلفية تقرير لصحيفة "غارديان" البريطانية، وصفت فيه الإمارة بالدولة "التي تستعبد العمال".
 
وتوصل المحققون الدوليون بعد الدراسة، إلى أن معدل الوفيات لن ينخفض منذ الآن وحتى عام 2022، وأن الدولة القطرية تنتظر ما يقارب 1.5 مليون عامل جديد لدعم الأشغال المتعلقة بالمونديال، كما توصلوا إلى نتيجة مفادها أن "أربعة آلاف مهاجر على الأقل سيدفعون حياتهم ثمناً لكأس العالم القطري".

الأموات أكثر من عدد اللاعبين

وتهكمت الأمين العام للمنظمة الدولية شاران بيورو على هذا الواقع المرير بالقول: "سيتخطى عدد العمال الذين سيفنون في ورشات بناء البنى التحتية للمونديال بكثير عدد اللاعبين الذين سيغزون الملاعب".
 
وإذا كانت عمليات بناء الملاعب لمونديال 2022 لم تبدأ فعلياً بعد، إلا أن الأعداد الهائلة للرافعات المنصوبة في شوارع الدوحة تقول الكثير عن مرحلة التحضير للحدث الكروي الأضخم في العالم، فالأشغال تجري على قدم وساق لبناء خط للميترو، كذلك تلك المتعلقة بتشييد ثلاثة أحياء سكنية عملاقة: مجمع المشيرب السكني الذي سيقوم على أنقاض الوسط القديم للمدينة، ومجمع لوسيل في إحدى ضواحي العاصمة، ومجمع اللؤلؤة في الجزيرة العائمة ذات الخمس نجوم والتي تتهافت عليها طبقة النخبة القطرية.
 
بالإضافة إلى ذلك، تعد الإمارة ببدء تشغيل مطار الدوحة الدولي الجديد خلال الأشهر المقبلة، والذي يتوقع أن ينافس مطار دبي أحد أكثر المطارات المقصودة في العالم.
 
وللحفاظ على سمعتها، تواصل الشركات العملاقة التي تتولى مشاريع المونديال القطري استعراض عضلاتها في الحفاظ على نمط العمل اللائق ومعايير السلامة الدقيقة، فمن غير المسموح مثلاً لأي كان الدخول إلى ورشة عمل مجمع المشيرب حيث ينشط أكثر من 130 ألف عاملاً من دون خوذة الرأس الواقية وسترة فلورية وحذاء مناسب.
 
ولم يستطع حتى وفد النقابات الدولي الذي زار الموقع أن يجد فيه أي دليل على انتهاك فاضح لقوانين السلامة العامة.
 
ويتباهى مديرو الشركات العالمية التي تنشط في قطر، على غرار "فينسي" الفرنسية للبناء و"بروكفيلد" الاسترالية، بملايين ساعات العمل التي أنجزوها "من دون أي حادث يذكر"، حتى أنهم يشرعون أبواب المجمعات السكنية "النموذجية" التي تستضيف العمال حيث "كل شيء جاهز للترفيه عن العامل المنهك العائد من دوامة النهار المضنية".
 
وتفخر إدارات المجمعات بأن تعلن أنها تنظم للعمال مباريات كرة قدم وجولات بلياردو ومسابقات كمال أجسام وسهرات "كاريوكي"، حتى أن أحد هذه المجمعات السكنية يرفع شعار "العامل المنتج هو العامل السعيد"، ولذلك فهو لم يبخل على عماله بطبيب نفسي يساعدهم بالتغلب على "الحنين إلى الوطن".
 
ولكن ما إن نباشر قليلاً بالهبوط إلى أسفــل الهرم الذي يشكل النسيج المحرك للاقتصاد القطري، حتى تبدأ الانتهاكات بالظهور إلى العلن.

انتهاكات فاضحة

لدى صلاح الدين، العامل الهندي الخمسيني الذي يعمل بلاطاً في إحدى ورش البناء في اللؤلؤة، الكثير ليرويه عن هذه الانتهاكات، فبعد أكثر من خمس سنوات من العمل في قطر، لم تمنحه الشركة الهندية التي وقع معها عقد عمله ترخيص الإقامة الذي لا يستطيع من دونه أن يرسل أموالاً إلى الخارج، أو أن تتم معاينته في المستشفيات الحكومية القطرية.
 
يقول صلاح الدين: "ترسلنا الشركة كل ثلاثة أشهر إلى دبي لتجديد تأشيرة الدخول. إنه أمر غير قانوني ويعرضنا لخطر توقيفنا من قبل الشرطة في كل لحظة".
 
ويسكن صلاح الدين في حجرة لا تتجاوز مساحتها 15 متراً مربعاً مع سبعة من مواطنيه، و"هذا انتهاك فاضح تمارسه معظم الشركات المستخدمة للعمال في قطر، فالقانون يفرض أن لا يتعدى عدد العمال الذين يسكنون غرفة واحدة الأربعة ويمنع استعمال الأسرة الموضوعة فوق بعضها البعض".
 
يوضح العامل الهندي، مضيفاً: "أجبرونا على شراء لوازم الأسرَة ولم يؤمنوا لنا حتى المياه الجارية، وعندما اشتكينا اقترح علينا أحدهم أن نشرب مياه المراحيض".

هذا غيض من فيض الإهانات التي توجه إلى العمال في قطر مقابل راتب زهيد لا يتجاوز الـ 1200 ريال (240 يورو) في الشهر كحد أقصى مع الساعات الإضافية.

العشرات في غرفة واحدة

ويقول راجيف شارما النقابي الهندي والعضو في المنظمة النقابية الدولية التي زارت الدوحة أنها "للأسف ممارسات أصبحت تقليدية في قطر"، مضيفاً أنه التقى بعمال "يعيشون بالعشرات في غرفة واحدة، وبعضهم وقع على عقود عمل براتب 200 ريال قطري لم يتقاضوا فلساً واحداً منها حتى اليوم".
 
ويبرر شارما ذلك بالقول: "إذا استثنينا نظام الكفالة في قطر، فإن قانون العمل سليم، لكن المشكلة تكمن في التطبيق، فالعدد القليل للمفتشين والبطء في تطبيق العدالة أمران يشجعان على ممارسة جميع أنواع الانتهاكات". إنها "اللامبالاة"، حتى بالنسبة للموت.
 
وتحاول الحكومة القطرية التي لا تطالها أية مسؤولية رسمية في هذا الشأن أن تقلل من حجم المشكلة، ولكن أرقام الوفيات التي اعطتها السفارات تبعث على الخوف، فالسفارة الهندية في الدوحة والتي تمثل الجالية المهاجرة الأكبر في قطر أحصت 237 حالة وفاة في العام 2012.
 
وتوقف عداد الموتى عند الرقم 159 منذ بداية العام الحالي حتى نهاية سبتمبر الذي شهد وحده 27 حالة وفاة، ولا تبدو الحصيلة أقل بشاعة عند الجالية النيبالية التي تشكل المجموعة الثانية الأكبر من المهاجرين إلى الإمارة والأكثر تمثيلاً في حقل البناء: 200 حالة وفاة في العام معظمها نتيجة الذبحات القلبية (60 في المئة من الوفيات)، وتليها حوادث العمل والسير (15 في المئة).

وفاة كل 3 أيام

وفي غياب التشريح، يصعب تحديد الأسباب الكامنة وراء الوفيات الناجمة عن قصور في عمل القلب وما إذا كانت تعود إلى طبيعة الحياة الشاقة التي يعيشها العمال والإجهاد في العمل.
 
ومن الممكن أن يلعب استهلاك الكحول وهو ظاهرة متفشية في الوسط العمالي دوراً في هذا الموضوع، ولكن العارفين بمجريات الأمور يتفقون على أن شريحة كبرى من اليد العاملة في الإمارة تستسلم في نهاية الأمر للإرهاق الممزوج بعوارض ارتفاع الحرارة والجفاف التي غالباً ما تصيب العمال في الورش المفتوحة.
 
وإلا "فكيف نفسر وفاة نيبالي كل ثلاثة أيام بذبحة قلبية رغم أن معظمهم لم يتجاوز الثلاثين من العمر؟"، يتساءل بمكر ساغار نيبال من الجالية النيبالية.
 
في الواقع، لا تختلف ظروف الحياة والعمل التي تفرضها قطر على عمالها عن تلك التي تعتمدها الدول الخليجية المجاورة للإمارة الصغيرة، فالأجور المتدنية والمساكن الحقيرة وقيود الكفالة كلها سمات مشتركة "للتجنيد الإجباري" للعمال في دول الخليج العربي من الدوحة إلى الرياض وأبو ظبي.
 
ولا تفلت من العقاب كذلك الوكالات المحلية التي تستقدم هؤلاء العمال من القرى الفقيرة في النيبال والهند وبنغلادش وسريلانكا، هذه الشركات هي أشبه بـ "تجار العبيد العصريين" الذين يقومون بإغراء طالبي العمل برواتب زهيدة تفقد 30 في المئة من قيمتها بمجرد وصولهم إلى بلد العمل ويجبرونهم على الاستدانة لدفع نفقات التأشيرة وبطاقة السفر، ولكن إمارة عائلة آل ثاني وحدها وضعت مؤخراً تحت مجهر وسائل الإعلام ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان بعد حصولها على حق استضافة كأس العالم.

مصدر إزعاج للأمير

فإذا كان (الأمير السابق) الشيخ حمد قد جعل من الحدث الكروي تتويجاً لإستراتيجية التأثير التي انتهجها في السنوات العشر الماضية ولسياسة التألق التي حولت الإمارة النفطية الصغيرة وغير المعروفة من قبل إلى واحدة من أكثر الدول اللاعبة على الساحتين الاقتصادية والدولية في العالم، فإن الحدث لم يشكل لنجله (الأمير الحالي) الشيخ تميم حتى الآن سوى مصدر للإزعاج والمتاعب.
 
وكأن السحر «القطري» انقلب على الساحر... فبعد أن اتهمت الإمارة بـ "شراء المونديال" وبعد أن استغلها "تجار ذهب كرة القدم" لأنها قد تضطر لإقامة الحدث في فصل الشتاء مما سيؤدي إلى فوضى في رزنامة المباريات الدولية التي ستقام عام 2022، ها هي قطر اليوم في مواجهة فضيحة مدوية تجتاح تاريخها القصير، فالإمارة الأغنى في العالم تقدم "بروليتاريا الصحراء" قرابين أمام معبد "آلهة كرة القدم".