الشعب العربي في رمضان

تاريخ النشر: 29 يونيو 2015 - 01:00 GMT
البوابة
البوابة

أ.د. حسني نصر
لم يكن مفاجئا أن يكشف استطلاع للرأي أجراه عبر الإنترنت موقع بيت.كوم، المعني بالتوظيف في الشرق الأوسط وشمل أكثر من سبعة الآف موظف عربي، أن معدّل التغيّب عن العمل يزداد بشكل كبير، وأن مستوى الإنتاجية تنخفض خلال شهر رمضان المبارك.

والواقع أنه بالمعايير الاقتصادية يقل إنتاج العرب بوجه عام في شهر رمضان، خاصة وان الحكومات والمؤسسات والشركات العربية جميعها دون استثناء تقريبا تعمد إلى تخفيض ساعات العمل اليومية، من باب التخفيف على الصائمين، وكذلك من باب مساعدتهم على التفرغ لمشاهدة مسلسلات الإلهاء والتغييب.

ولا أعرف إذا ما كان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يتعاملون مع العمل في رمضان بمثل ما نتعامل معه، وإن كنت لا أعتقد أن المسلمين في ماليزيا أو تركيا أو حتى باكستان وبنجلاديش يفعلون نفس ما نفعل في رمضان. وأشهد، وقد سبق أن قضيت عدة سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية أن إنتاج المسلمين في هذا البلاد لا ينقص على الإطلاق إن لم يكن يزيد خلال الشهر الكريم.

فقد كنا نذهب إلى أعمالنا في نفس مواعيد ما قبل رمضان، وكنا نعمل نفس عدد الساعات وربما أكثر. في عالمنا العربي المليء بالمتناقضات، ورغم تخفيض ساعات العمل فإننا كثيرا ما نعلق كل شيء على الصيام. فاذا تأخرت معاملة ما، أو وقع خطأ ما فإن السبب الأول الذي يختفي وراءه الجميع هو الصيام، ويصبح كل شيء مؤجلا إلى أن ينتهي رمضان. ولذلك فإننا كثيرا ما نسمع من الحكومات ومن المسؤولين من المحيط إلي الخليج عبارة "بعد رمضان أن شاء الله" أو "مر علينا بعد العيد"، أو "معلش الناس صايمين"، وهي عبارات تشير إلى الطريقة الخاطئة التي نتعامل بها مع شهر رمضان.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا نصبح أقل نشاطا في العمل في رمضان؟ ولماذا تواجه المؤسسات والدوائر والشركات انخفاضا ملحوظا في إنتاج موظفيها خلال هذا الشهر. الإجابة قد تكون في تقرير نشره موقع مصر العربية نقلا عن صحيفة "هوفنجتون بوست". يقول التقرير إن بعض الأعمال في الدول العربية تكون أكثر تأثرا من غيرها خلال شهر رمضان. ففي قطاع البناء على سبيل المثال ينخفض الإنتاج بنسبة 50 في المائة بسبب عودة المغتربين إلى أوطانهم في رمضان، وحصول البعض الأخر على إجازات لأداء العمرة أو للخلود إلى الراحة والتفرغ لمشاهدة التلفزيون، كما أن عدد ساعات العمل الفعلية لا يتجاوز أربعة ساعات يوميا.

وحسب تقارير أخرى فإن الآثار الاقتصادية الناجمة عن الصيام في دول الخليج علي وجه الخصوص تبدو كبيرة. إذ أن خفض ساعات العمل يوميا بواقع ساعتين يعني فقدان أسبوع كامل من الإنتاج خلال الشهر الكريم. ويشير نفس التقرير إلى أن الدول التي تخفض ساعتين من وقت العمل في رمضان، تفقد نحو 7.7٪ من قدراتها الإنتاجية خلال الشهر الفضيل.الطريف في الأمر أن صحيفة الرياض السعودية واستباقا لرمضان نشرت في منتصف شعبان الماضي تحقيقا صحفيا تطالب فيه بتعديل أوقات العمل في رمضان في الدوائر الحكومية لتكون من السادسة إلى الحادية عشرة صباحا مراعاة لظروف الصيام والطقس شديد الحرارة، وهو ما يعني تخفيض عدد ساعات العمل إلى خمس ساعات فقط في اليوم. وحسنا فعلت وزارة الخدمة المدنية السعودية برفض هذه المقترحات أو على الأقل تأجيل بحثها.

وأخيرا فإن السؤال الذي لا أجد إجابة عنه هو: هل أصبحنا أمة لا تريد أن تصوم صوما حقيقيا، وإذا صامت لا تريد أن تعمل، وإذا عملت لا تريد أن تنتج، رغم أن الأصل في الأشياء أن شهر رمضان هو شهر للعبادة، والعمل جزء من العبادة. 

واقع الأمر أنى أشفق كثيرا على ملايين المسلمين في عالمنا العربي الذين حولوا شهر الصيام والعمل والإنتاج إلى شهر للنوم والكسل ومشاهدة التلفزيون، وحرموا أنفسهم ومجتمعاتهم من لذة العبادة المقترنة بالعمل. أشفق عليهم وانا اعلم أن الكثيرين منهم محاصرون بشياطين الإنس الذين أنفقوا عامهم منذ انتهاء رمضان الفائت في إنتاج هذا الكم الهائل من المسلسلات الدرامية والبرامج التلفزيونية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ويكفي أن تعرف أن العرب في دولة واحدة هي مصر رغم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها، قد أنفقوا أكثر من مليار وثلاثمائة مليون جنيها على إنتاج 38 عملا دراميا رمضاني تذاع على الفضائيات بين الإعلانات التي أصبح يغلب عليها تسول جنيهات قليلة من جيوب المشاهدين لمستشفيات وجمعيات خيرية عديدة، بعد أن تخلت الدولة عن دورها الاجتماعي. والشاهد في الأمر أننا لو جمعنا كل ما أنفقه العرب على إنتاج المسلسلات السورية والكويتية والقطرية والعمانية وغيرها، لكنا أمام مبالغ هائلة كان من الممكن أن تستثمر فيما يعود بالنفع على الأوطان والمواطنين، وفي نفس الوقت تحفظ للناس وقتهم، لكي يوظفوه في صيام حقيقي وأعمال منتجة. 

وإذا كنت أشفق علي من يضيعون رمضان أمام الشاشات فإنني أشفق أكثر على ملايين غيرهم يملؤون المصانع والمزارع والمتاجر والمؤسسات الحكومية والخاصة وقطاعات الإنتاج والخدمات ويعملون بجد واجتهاد في هذا الشهر الكريم، وهم صائمون إيمانا واحتسابا، مقتدين في ذلك بالنبي الكريم صلي الله عليه وسلم والصحابة والصالحين الذين كانوا يحولون شهر رمضان إلي شهر للعمل والإنتاج والنصر على النفس وعلى الأعداء.

الفارق كبير والهوة واسعة بين الفئتين، الفئة الخاسرة التي حولت رمضان إلي شهر للكسل والجلوس أمام التلفزيون لمتابعة البرامج والمسلسلات، والفئة الرابحة التي حولته إلى عمل دؤوب وتفاني في العبادة والإكثار من الخيرات.

 خلاصة القول إن الصيام ليس مسؤولا عن انخفاض إنتاج المواطن العربي خلال شهر رمضان، وإنما المسؤول هو فهمنا الخاطئ للحكمة من الصوم، والممارسات الخاطئة التي اعتاد الناس عليها في هذا الشهر الكريم، بالإضافة إلى شياطين الإنس الذين ينتجون المسلسلات والبرامج ويتفننون في إضاعة الوقت وإفساد الصيام.