النزاع على النفط بين شطري السودان

تاريخ النشر: 26 فبراير 2012 - 04:09 GMT
ساهم نفط جنوب السودان في تعزيز اقتصاد السودان على مرّ العقد الماضي ودفع عدداً كبيراً من السودانيين إلى تقبّل القمع الذي مارسته الحكومة الإسلامية في السودان
ساهم نفط جنوب السودان في تعزيز اقتصاد السودان على مرّ العقد الماضي ودفع عدداً كبيراً من السودانيين إلى تقبّل القمع الذي مارسته الحكومة الإسلامية في السودان

يبدو أنّ السودان ودولة جنوب السودان المنفصل عن شماله عالقان في لعبة خطيرة للغاية قائمة على المجازفة ببلايين الليترات من النفط والاستيلاء على ناقلات النفط وإغلاق الآبار وتعريض السلام الهش المدعوم من الولايات المتحدة الذي تمّ بين البلدين بعد عقود من الحرب، للخطر.

كانت العلاقات بين الشمال والجنوب سيئة للغاية إلى حدّ أنّ الحرب بالوكالة التي شنّت بين البلدين دعمت المجموعات المتمردة وأجّجت أحياناً حدّة الصدامات المباشرة بين السودان وجنوب السودان. وتعدّ الحدود المضطربة والمتنازع عليها اليوم الفاصلة بين السودان والدولة المجاورة له التي حازت على استقلالها حديثاً خط الصدع الأكثر سخونة في إفريقيا لا سيّما أنّ الجيشين الكبيرين الموجودين على جانبي الحدود قاتلا بعضهما البعض على مدى أجيال طويلة.

عقب انتهاء المحادثات الطارئة التي عُقدت لتفادي اندلاع نزاع واسع النطاق، وافق الطرفان على التوقيع على معاهدة عدم اعتداء هزيلة في 10 (فبراير)، بعد الضغوطات الكبيرة التي مارسها الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة والصين التي تعدّ شريكاً أساسياً في النفط بالنسبة إلى الطرفين لتخطّي لغة وتكتيك الدمار المتبادل. ويرى عدد قليل من المحلّلين إمكان التوصل بسهولة إلى حلول لاستراتيجية الدفع والجذب المحمومة المعتمدة حيال النفط ومن غير الواضح مدى اختلاف معاهدة عدم الاعتداء عن اتفاقيات الأمن السابقة التي لم تجد نفعاً.

في شهر (مايو)، وافق الطرفان على نزع السلاح من الحدود المتنازع عليها. لكن بعد مرور أيام على هذا القرار، شرع السودان في عملية قصف كثيفة على طول الحدود، وراح يرمي بين حين وآخر القذائف في الجنوب فيما هرع سكان جنوب السودان بأسلحتهم إلى جانب الحلفاء المتمردين الذين كانوا يقاتلون على الحدود. وطالما كانت هذه المنطقة الحدودية على مدى سنوات بمثابة علبة ثقاب لأنّ معظم النفط موجود فيها. يحتاج الطرفان بشدّة إلى النفط لإدارة حكومتهما ولتغذية شعبهما ولقمع حركات التمرد المنتشرة داخل حدودهما. كما يحتاج الطرفان نظرياً إلى بعضهما البعض. وتكمن المعضلة التي تواجه السودان وجنوب السودان في وجود 75 في المائة من النفط في الجنوب غير أنّ خط الأنابيب الذي يصدّره يمرّ عبر الشمال. نتيجة ذلك، اعتبر البعض في الماضي أنّ النفط هو بمثابة الغراء الذي يجمع البلدين ببعضهما البعض ويمنع اندلاع النزاع. لكن يبدو أنّ النفط تحوّل اليوم إلى فتيل. حين انفصل جنوب السودان عن السودان خلال السنة الماضية عقب حرب عصابات دامت سنوات، اعتُبر استقلاله إنجازاً كبيراً وضع حدّاً لأحد أكثر الحروب الأهلية دموية في إفريقيا. إلا أنه لم يتمّ حلّ المسألة التي برزت خلال عملية الانفصال ألا وهي كيفية تقاسم الطرفين الأرباح المتأتية من النفط. وفيما لا يزال البلدان يناضلان اليوم للاستيلاء عليها، بدت هذه المسألة شائكة وخطرة كما خشي عدد كبير من الأشخاص.

ساهم نفط جنوب السودان في تعزيز اقتصاد السودان على مرّ العقد الماضي ودفع عدداً كبيراً من السودانيين إلى تقبّل القمع الذي مارسته الحكومة الإسلامية في السودان (التي عاقبتها الولايات المتحدة). حين أعلن جنوب السودان استقلاله، أخذ كمية كبيرة من النفط توازي بلايين الدولارات، الأمر الذي أضرّ باقتصاد السودان وأدى إلى اندلاع أحد أكثر النزاعات عمقاً التي واجهها الرئيس عمر حسن البشير خلال السنوات العشرين التي أمضاها في السلطة. ويواجه البشير اليوم نسبة تضخّم مرتفعة وتراجعاً في الاقتصاد وتظاهرات ينظمّها الطلاب وحركات تمرد في دارفور وجبال النوبا وإقليم النيل الأزرق إلى جانب اتهامات بارتكاب إبادة بسبب المجازر التي حصلت منذ سنوات عديدة في دارفور. في الوقت نفسه، يواجه جنوب السودان الذي يعدّ أحد أكثر البلدان فقراً في العالم، أزمة غذاء كبيرة إلى جانب قيام ميليشيات إثنية مدجّجة بالسلاح بالتجوّل في أنحاء الريف، وقتل المئات والتهكّم على قوات الأمن في جنوب السودان.

ويبدو أنّ السودان وجنوب السودان اللذين يذكيان نار التوترات يدعمان المتمردين سرّاً كلّ في أرضه، ما أدى إلى صدامات على الحدود وإلى قصف جوي متواصل. وتمّ إغلاق الحدود التي تمتد على طول 1600 كيلومتر بينهما وتمّ منع نقل ملايين الكيلوغرامات من الأغذية الضرورية وتوقفت التجارة من الجانبين. وقبل عقد الاتفاقية الطارئة الأخيرة، كان الوضع خطيراً جداً إلى حدّ أنّ عدداً كبيراً من الأشخاص توقّعوا عواقب عنيفة. قالت مريم الصادق المهدي وهي سياسية بارزة في الخرطوم، عاصمة السودان «أنا أتوقّع اندلاع حرب واسعة النطاق. فالوضع أشبه بعرض مسبق لفيلم». في إطار القتال على النفط، رفض جنوب السودان الرسوم التي قد تفرض مقابل استخدام خطوط أنابيب السودان. ورفع السودان الرهان في شهر (ديسمبر)، من خلال الاستيلاء على ناقلات النفط المعبأة بالنفط الخام في جنوب السودان. ومن ثمّ اتخذ الجنوب خطوة جذرية قضت بإغلاق كافة آبار النفط، الأمر الذي من شأنه تدمير اقتصادي الشمال والجنوب بسرعة. أقرّ المسؤولون في جنوب السودان أنهم يستخدمون النفط حالياً من أجل إجبار الخرطوم على تقديم التنازلات حول جميع المسائل بما في ذلك منطقة أبيي المتنازع عليها، مشدداً على أنّ إنتاج النفط سيباشر بعد أن يتمّ «التوقيع على كافة الصفقات». كما يهدّد الجنوب بمنع الوصول إلى النفط على مدى سنوات إلى جانب بناء خط أنبوب بديل يمرّ عبر كينيا. لكن، من غير الواضح كيف سيصمد هذا البلد الجديد لهذه المدة من الوقت.

يشكّل النفط 98 في المائة من مدخول الحكومة. ويتساءل الخبراء ما إذا يمكن إنشاء خط أنبوب عبر كينيا. إذ يجب مدّه صعوداً، الأمر الذي يتطلّب إرساء محطات ضخ عديدة وباهظة قد تمر على الأرجح عبر مدينة جونقلي، علماً بأنّ هذه الولاية الموجودة في جنوب السودان تعتبر منطقة حرب بسبب وجود ميليشيات فيها. وفي الخرطوم، لا يزال عدد كبير من الأشخاص يناضل لاستيعاب واقع أنّ الجنوب قد انفصل. فلا أحد يحب خريطة السودان الجديدة لا سيّما أنه كان أكبر بلد في إفريقيا. إذ يبدو وكأنه تمّ بتر أوصاله، ما تسبّب بفتح جرح عميق. وأشارت ندى جريس وهي مديرة مبيعات في الخرطوم «لا أستطيع الاعتياد على الفكرة. فهي تبدو... غريبة». تعدّ جريس مثالاً جيّداً على الهبوط السريع في اقتصاد السودان. فهي تعمل لدى وكيل لبيع سيارات «نيسان» علماً بأنها كانت تبيع 50 سيارة في الشهر فيما انخفضت المبيعات اليوم إلى 5 سيارات. كما أنها تفكّر في الانتقال إلى القطاع الصيدلي أو قطاع الأغذية معتبرة أنّ «الناس قادرون على التوقّف عن شراء السيارات إلا أنه لا يمكنهم التوقف عن الأكل». خلال العقد الماضي، قدّمت ثروة السودان النفطية الدعم لمصانع جديدة وطرقات ومطاعم كباب ولخطط قاضية بإنشاء مدينة صغيرة ومطار بقيمة بليون دولار إلى جانب إعادة تأهيل العاصمة بالكامل لتتضمن منتزهاً على طول النيل. إلا أنّه لم يتمّ الانتهاء من تشييد المباني الشاهقة فيما أصبحت الإلكترونيات والكتب وحتى الطماطم بعيدة المنال بالنسبة إلى عدد كبير من الأشخاص بسبب تدهور قيمة الجنيه السوداني. ويعتبر المسؤولون في الخرطوم أنّ الجنوب يدين لهم ببليون دولار مقابل استخدام خطوط الأنابيب علماً بأنه المال الذي هم بحاجة إليه لمنع الاقتصاد من التدهور. وقاموا ببيع كمية محدودة من النفط من الناقلات التي استولوا عليها قبل إطلاقها. وقال رئيس جنوب السودان سلفا كير إنّ المبلغ الذي يريده الخرطوم أي 32 دولاراً للبرميل هو «باهظ» و«لا يلتزم المعايير الدولية».

وقال صابر حسن وهو مفاوض حكومي سوداني إنّ الشمال ينوي أن يكون مرناً إلا أنّ سكان جنوب السودان «عاطفيون جداً» ولا يزالون يعتبرون أنفسهم متمردين. وتابع حسن بالقول «إن أعطيتهم خيارين سيختارون الخيار الذي يضر بالشمال وليس ذلك الذي يساعد الجنوب». ويرى زعماء جنوب السودان أن الأمر نفسه ينطبق على الخرطوم الذي قطع الطرقات المؤدية إلى الجنوب ومنع أخيراً الشحنات الإنسانية وذلك من أجل معاقبة الجنوب عبر خسارة ملايين الدولارات. ويتساءل عدد كبير من المحللين السياسيين ما إذا كان البشير قادراً على الصمود في وجه كافة هذه الأزمات. لكن من الصعب معرفة من الذي سيحل مكانه. تبدو المعارضة السياسية في السودان منقسمة بالعمق ويديرها السبعونيون بلحى بيضاء. لا تملك الحركات المتمردة دعماً كبيراً في الخرطوم.

لقد أطلق طلاب سودانيون حركة شبيهة بالربيع العربي في السنة الماضية إلا أنهم فشلوا في لفت الأنظار. وسارعت قوات الأمن إلى توقيف المتظاهرين وقتلهم عبر تعليقهم بمراوح السقف. وتتخطى الحياة في السودان الاضطرابات. ففي كل يوم جمعة، يتجمهر مئات من الأشخاص من نوبا حول دائرة في ضاحية من ضواحي الخرطوم لمشاهدة المصارعة التقليدية. فيدير النوبيون الإثنيون التمرّد ضد الخرطوم في جبال نوبا. لكن ما من دليل دامغ على ذلك. وقال متفرّج طاعن في السن «تجري الأمور بصورة جيّدة». وفيما حاول الاستفاضة أكثر في الموضوع، ضرب مصارع خصمه وطرحه أرضاً. وصرخ هذا الرجل «هل رأيت ما حصل! يا إلهي، كم أحب ذلك».