في محاولة لفهم الأسباب التي أدت إلى موجة الاضطرابات التي تجري هذا العام في العالم العربي, يتساءل الناس أحيانا عما إذا كانت الدوافع الحقيقية تعود لأسباب اقتصادية أكثر منها سياسية. برغم كل شيء, شهدت أسعار المواد الغذائية ارتفاعا حادا خلال شهر كانون الثاني من هذا العام عندما بدأت الاحتجاجات في مصر حيث كان مؤشر البنك الدولي لأسعار المواد الغذائية 29 بالمائة أي أعلى مما كان عليه في شهر كانون الثاني من عام 2010. تعتبر البطالة من بين المظالم الرئيسية للمحتجين, بالإضافة إلى أن خلق فرص العمل يكافح ليتمشى مع النمو السكاني السريع في هذه المنطقة, اضافه الى استمرار عدم التطابق بين التعليم المتوفر وبين المهارات التي يحتاجها سوق العمل.
علاوة على ذلك, وعلى الرغم من ارتفاع أسعار النفط الهائلة في عام 2003-2008 وزيادة الإنفاق العام في محاولة لتعويض اثر الركود العالمي في عامي 2009-2010, الذي زاد من التباين الاقتصادي في العديد من الدول العربية, واستمرار ارتفاع معدل التضخم كل ذلك أدى إلى تآكل أجور الفقراء المنخفضة وهو ما يسمى بالعمالة غير المدربة. نرى الآن اضطرابات في عدة دول جنوب أوروبا نتيجة لتدابير التقشف المالي, لكن هل يكون الربيع العربي حقا بسبب الديمقراطية وحقوق الإنسان أو عدم توفر الوظائف أو الخبز أو السكن.
في الواقع, يعتبر تكرار هذا السؤال تصورا خاطئا فهو يستند إلى الانقسام الزائف بين «السياسة» و «الاقتصاد» وهي تسميات مناسبة لمختلف التخصصات الأكاديمية وينبغي أن لا يكون مخطئا في المجالات الحقيقية المختلفة أو فصل هذه المجالات عن الواقع. من الممكن أن يعتبر هذا الإجراء صحيحا بشكل خاص في المنطقة التي لا تزال الدولة تلعب دورا رئيسيا في كل حيثيات اقتصادها. يتشكل اقتصاد العالم العربي بشكل أساسي من خلال هياكل المنطقة السياسية والاجتماعية والمؤسسية والمشاكل الاقتصادية مثل البطالة والتضخم والتباين الاقتصادي التي على الرغم من اختلافها فهي ترتبط ارتباطا لا ينفصم عن السياق السياسي.
على سبيل المثال, ظل التضخم مرتفعا بصلابة في مصر لعدة سنوات حتى في عام 2009 فقد بقي مقاوما للاتجاه العالمي ,حيث يقول الاقتصاديون المحليون أن هذا يعود بشكل جزئي إلى الاحتكارات الواسعة في الأسواق الاستهلاكية المحلية, و في حالة ارتفاع أسعار المواد الغذائية ووجود عقبات تواجه الإصلاح السياسي فقد تفاقم التباين الاقتصادي بسبب ضعف المؤسسات وانتشار الفساد. على سبيل المثال, نشر مقال في صحيفة وول ستريت جورنال في شهر شباط الماضي بعنوان» الفصل العنصري في الاقتصاد المصري» بقلم الاقتصادي البرازيلي المعروف هيرناندو دي سوتو قال فيه أن الكثير من المصريين يعملون في الاقتصاد الرمادي (أي الأسواق غير الرسمية ) و اقتصاد السوق السوداء بدلا من القطاعات القانونية الخاصة و العامة معا بسبب ضعف المؤسسات وفشلها ووجود القوانين المرهقة والسيئة التي تقوم على التمييز.
في الواقع, يعتبر احد مسببات موجة الاحتجاجات التي اجتاحت تونس في شهري كانون الأول و الثاني الماضيين انتحار محمد البوعزيزي وهو شاب يعمل بشكل غير رسمي بائعا للخضار, بعد أن صادرت الشرطة عربة الخضار غير المرخصة التي يعمل عليها. يعكس ذلك حقيقة أن الكثير من الناس يشابه حالهم البوعزيزي في جميع أنحاء البلاد وهم لا يعكسون لتجربه المشتركة للبطالة فقط إنما عدم رضاهم عن نظام فاسد ينظر إليه على انه يفرض قوانين ضد بائعي الخضار الفقراء وليس ضد السرقة الصارخة للأرض و الموارد من قبل النخبة. في جميع أنحاء المنطقة, تعتبر نسبة البطالة مرتفعه حتى في البلدان التي تتوفر لديها فرص عمل وفيرة مثل تلك الموجودة في منطقة الخليج و التي تعتمد بشكل متزايد على العمال الأجانب بسبب ضعف نظم التعليم ووجود نموذج طبقتين من العمال في سوق العمل( يتم بناء القطاع الخاص بالاعتماد على العمال الأجانب من ذوي الأجور المتدنية, بينما يقوم القطاع العام قديما بالاعتماد على المواطنين). حتى في دول الخليج لا تزال المشاكل الاقتصادية بعيده واقل حدة مما هي عليه في مصر و اليمن حيث تقتصر الحوافز على العمل والدراسة من قبل الانظمه على أنها مكافاه للعلاقات الشخصية و العلاقات الاسرية والولاء السياسي أكثر منها مكافاة للمجتهدين.
لقد شاهدنا اكبر الاضطرابات في دول الخليج الأقل ثراء مثل البحرين وعمان اللتين تواجهان اكبر التحديات في المحافظة على نشر نموذجهما الاقتصادي. مع ذلك ,ليس هناك أي علاقة بسيطة بين متوسط الدخل أو التفاوت في الدخل و بين الاضطرابات في جميع أنحاء المنطقة ككل ,فقد بدأت الاضطرابات واضحة لاسيما في البلدان صاحبة الحكام الأطول خدمه (في حالة البحرين فهي صاحبة أطول فتره حكم لرئيس الوزراء, بينما تعتبر سوريا هي الاستثناء الرئيسي لهذه القاعدة) مع قوات الأمن الأكثر وحشيه.(كما أشار ديفيد بتر من وحدة الايكونوميست انتليجنس).
لقد ساعدت بعض الشبكات في تنظيم احتجاجات 25 يناير في مصر و التي تأسست أصلا لتنظيم مظاهرات ضد وحشية الشرطة و الفساد في أعقاب وفاة خالد سعيد و هو شاب اقتيد من احد مقاهي الانترنت من قبل الشرطة وقد تعرض للضرب في الشارع حتى الموت في حزيران 2010 في مدينة الإسكندرية , حيث قال أصدقاء و أقارب سعيد انه كان يحاول تحميل دليل على فساد الشرطة وعندما تظاهر المواطنون ضد السلوك الوحشي للشرطة ردت عليهم الشرطة بالضرب. تأسست على الفيسبوك مجموعة « كلنا خالد سعيد» إحياء لذكراه. احد المشرفين على هذه الصفحة يدعى وائل غنيم ويعمل مدير تسويق تنفيذي لدى شركة جوجل في دبي وهو منظم اجتماعي ناشئ , أصبح وائل وجه غير متوقع للثورة العربية بعد ان القي القبض عليه في القاهرة في شهر كانون الثاني للشك بمساعدته بتنظيم الاحتجاجات. وتكمن قوة الانتفاضة المصرية بشكل جزئي في الدعم الموجه من قبل مختلف الطبقات المتوسطة والمهنية و قادة النقابات العمالية. لقد تكررت المطالب بحقوقهم السياسية و الاقتصادية كثيرا أثناء ترديدهم لشعار الاحتجاج «الخبز, الكرامة» وقد تكررت كلمة « العدالة»في شعارات الاحتجاج في جميع المنطقة وتضمنت كذلك مخاوفهم من الفساد وتوزيع الثروة فضلا عن حقوق الإنسان وسيادة القانون.
في كثير من البلدان النامية يعرف الناشطون حقوق الإنسان بشكل واضح لتشمل الحقوق الاساسيه الاجتماعية والاقتصادية مثل تلك المنصوص عليها في الميثاق الدولي للأمم المتحدة المتعلق بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و التي تمت المصادقة عليها من قبل العديد من الدول النامية وليس من قبل الولايات المتحدة, وقد اعتبرت قضايا التعليم و الرعاية الصحية قضايا أساسيه رئيسيه, إحدى الإعلانات المعلقة على الجدران تتضمن كتاباً صدر مؤخرا لصور المتظاهرين المصريين وهم يقرأ ون رسائل من ميدان التحرير تقول الرسالة» لماذا يبلغ حسني مبارك 80 عاما؟ لأنه لا يستخدم نظام الرعاية الصحية الوطنية. النقص في مستوى الأداء أو عدم وجود سلطه قضائية مستقلة تعمل على تنفيذ حكم القانون أو نظام المكافأة للشخص الجدير بها هي قضايا سياسية و اقتصاديه تؤثر في الوقت نفسه على الحريات السياسية وتغيير فرص نجاح رجال الأعمال بالاضافه إلى الحريات السياسية و من يمثلها , كل هذا ببساطة يوحي بان زيادة الإنفاق العام – النموذج السعودي للرد على الربيع العربي _لن يكون كافيا للتعويض عن مطالب الإصلاح على المدى الطويل.
تحتاج مصر إلى خلق 700 ألف فرصة عمل سنويا للحفاظ على استقرار معدل البطالة وللحد منها يتطلب ذلك معدلات نمو تبلغ نسبتها 7 بالمائه. لقد أثيرت التوقعات التي تتعلق بمستقبل هذه الثورات فعلى سبيل المثال, هناك آمال في مصر أن البلاد ستستفيد من عوده مليارات الدولارات من الأصول المسروقة على الرغم من أن التقديرات الشعبية أكثر تفاؤلا من التقديرات الصحيحة و التي لا تنسب إلى مصدر فهي تقدر ب 60 مليار وهذا مبلغ كبير بشكل مثير للريبة حيث ستكون حصة كل مصري 705 دولار مع هذا, من المرجح ان تزداد على المدى القصير معاناة الاستثمارات و السياحة الداخلية وترتفع نسبه البطالة حيث يخشى المستثمرون الأجانب أن يكون عليهم إعادة تقييم استراتيجياتهم وافتراضاتهم الاساسيه حول الاستقرار والمخاطر في المنطقة تماما مثل واضعي السياسات.
إلا أن العديد من المستثمرين يرون صعودا قويا محتملا وتغييرا للسياسة في مصر وتونس- إذا كانت تؤدي إلى الحد من الفساد و المزيد من الشفافية و تقوية المؤسسات و زيادة الثقة في سيادة القانون الى حد كبير. هناك بعض القضايا المفاجئة ذات اهتمام مشترك بين المتظاهرين حيث سيكون هناك خلافات رئيسيه بشأن قضايا أخرى مثل حقوق العمال ليكون بمثابة القاعدة كما تم تسليط الضوء على قرار الحكومة المؤقتة على رفض القروض المشروطة من صندوق النقد الدولي و البنك الدولي.
لقد فشلت سياسات اقتصاديه ليبرالية في مصر و تونس في خلق المستوى المتوخى من قبل منظري الأسواق الحرة – وهي المشكلة البالغة الصعوبة التي نادرا ما تكون حصريه في العالم العربي.
أن الفكرة القائلة بإمكانية القيام بإصلاحات اقتصادية و سياسية للخروج بمسارين منفصلين هو في جوهره مجرد وهم على الرغم من انه قد يكون مقنعا لأحد الاقتصاديين في المؤسسات المالية الدولية والبنوك و التي تفضل ان تتخيل نفسها احد واضعي التقنية السياسية. بدلا من ذلك تحتاج الإصلاحات الاقتصادية و السياسية إلى أن تنفيذها معا من اجل بناء اقتصادي عربي أكثر عدلا و شمولا.
جين كينيمونت (خبيرة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في برنامج جاثام هاوس بالتعاون مع تربيون ميديا سيرفس) ذا وورلد تريبيون - ترجمة أرب حياصات