قد تكون أحد الخطوات الأكثر جرأة في أي اقتصاد هو الاعتراف بواقعه، والتعامل وإصدار القرارات بناء على معطيات وحقائق موجودة.. سورية تمر بأزمة والأزمة ليست سهلة وأيضا ليست عابرة، وهي مع تعقيداتها الأمنية والاجتماعية والثقافية، بدأت تأخذ بعدا اقتصاديا واضحا، لكن المشكلة أن التوصيف للجانب الاقتصادي من المشكلة لم يرق لملامسة الواقع وهموم المواطنين..
تصريحات كثيرة لمختلف المستويات الحكومية أشارت إلى منعة وقوة اقتصادنا، وأن الليرة بخير وصامدة وأن الاحتياطي يكفي لتمويل المستوردات والسلع الأساسية لفترة مطمئنة.. لكن ما لبث أن بدأت التصريحات تتضارب والقرارات تصدر لتعبر عن واقع مغاير للتصريحات، فبدأ المواطن والمتعامل مع السوق السورية يفقد الثقة شيئا فشيئا، ومع استمرار الأزمة بدأت تظهر مشكلات جديدة لم تكن متواجدة مع بدايتها، مثل ارتفاع الأسعار وفقدان بعض الماركات، وغياب الكثير من المحفزات التي تعود عليها أصحاب الفعاليات الاقتصادية أو المواطنون أنفسهم ..
لكن المفاجأة كانت الانهيار السريع لليرة السورية في السوق السوداء، وبغض النظر عن الأسباب فإن الواقع أشار إلى أن صمود الليرة لن يستمر طويلا، وخلال عشرة أيام فقدت الليرة حوالي عشر ليرات من قيمتها في سوق الصرف ليصبح سعر الدولار بحدود 73 ليرة بعد أن ظلت لفترة تتأرجح بين 60 – 62 ليرة، ولم تنفع محاولات المركزي في امتصاص آثارها السلبية..
بعد كل هذه المحاولات من تجار السوق السوداء، أو مما فرضته آليات السوق وصل الأمر إلى حال لا يمكن أمامه إلا الاعتراف بالواقع أن الليرة اقتربت من مرحلة الخطر، فسعر الصرف المسجل في السوق لم يسجل في تاريخ سورية نهائيا، والمشكلة الأكبر من ذلك هي انهيار الثقة وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه عملة ما، لأن كافة المحاولات التالية لن تفيد في استعادة الثقة، فالبناء والاستقرار يحتاج سنوات طويلة أما فقدان الثقة فيتم في لحظات، وعندها نحتاج سنوات لإعادة البنيان..
خطوة الحكومة بتعويم سعر صرف الليرة وجعله متحركا حسب السوق، وإن كان ضمن ضوابط، خطوة قد تكون متأخرة ولكنها بالتأكيد ضرورية لأنها تعتبر عملية اقتصادية بحتة، وهذا ما هو مطلوب، التعامل مع الاقتصاد كاقتصاد وواقع، وليس من خلال رؤى غير اقتصادية..
التعويم يقصد به ترك العملة ليتحدد سعرها في السوق الحرة دون تدخل من الدولة وإذا استقر السعر الحر عند نسبة معينة بين العملة المعينة وغيرها من العملات يمكن عندئذ تثبيت هذا السعر ونكون قد وصلنا بالعملة إلى سعرها الحقيقي الذي يعكس قوتها الحقيقية وقدرتها الشرائية. أي أن العملية تخضع لقانون اقتصادي بحت، وهو على الغالب يكون مؤقتا، فعند نهاية أي أزمة تسببت بهذا " الهلع" يمكن ببساطة إعادة الأمور إلى سابق عهدها.
المهم أن يكون الحل دائما عبر أدوات اقتصادية، وهذه الأدوات لديها الكثير من المرونة للتعامل مع أدق وأصعب التفاصيل واعقد الحالات، لتصل باقتصاد أي بلد إلى بر الأمان بأقل الخسائر، فالاقتصادات الأخرى واجهت ظروفا مشابهة وأحيانا أكثر سوءا خاصة عندما يترافق الحصار والعقوبات مع كوارث طبيعية ومع فساد متعاظم، عندها يمكن التسليم بأن الأمور لن تنحسر، ولكن مع ذلك قدم خبراء الاقتصاد العالميون حلولا كثيرة استطاعت إنقاذ هذه الدول من حافة الإفلاس..
سورية بلد غني بالموارد والخيرات، ويمكن أن تبقى وتستمر بقوة أكثر من أي وقت مضى، لكن من خلال الحوار الاقتصادي – الاقتصادي مع المختصين وأصحاب الشأن، وليس من خلال القرارات الارتجالية والتجريب.. فلنبدأ خطوات الصراحة والمكاشفة، لنبدأ بعد ذلك خطوات أخرى نحو بناء أكثر تماسكا وصلابة..