هناك على طرف خريطة الأردن وتحديداً في محافظة المفرق يقبع مكان أشبه بالسجن الكبير؛ إنه "مخيم الزعتري" للاجئين السوريين. قد تسمع الكثير عن الحياة داخل المخيم وتبدأ برسم تخيلٍ ما يبدو عليه هذا المكان إضافة إلى طبيعة الحياة بداخله، لكنك لن تصل الى جزء من الواقع باستخدام خيالك فحسب.
لذا كان لا بد لنا من دخول المخيم لإشباع فضولنا ولتكوين فكرة حتى وإن كانت بسيطة عن الحياة فيه. وبالفعل بدأت الرحلة الطويلة للزائر القادم من "عمان" لتصل إلى بابه الذي يقف أمامه طوابير من الزوار الذين ينتظرون الإذن بالدخول.
بعض هؤلاء الزائرين يمتون بصلة قرابة لبعض قاطني المخيم وآخرون أصدقاء للبعض الآخر؛ وهؤلاء يواجهون الصعوبة الأكبر بالدخول وقد يصل الأمر إلى أن ينتظروا وقوفا لساعات في انتظار الإذن. ومنهم من يأتي لتقديم المساعدة وهؤلاء يمكنهم الدخول بطريقة اسهل وخصوصاً إن كانوا شخصياتٍ بارزة أو من أعلام المجتمع. إضافة إلى ذلك؛ يتواجد الصحفيون الذين يتبعون لوسائل الإعلام المختلفة والذين تسهل عملية دخولهم "نوعا ما" غير أنه لا بد من وجود مرافق لتسهيل حركتهم أو "هذا ما يقال".
فور دخولك المخيم وبنظرة عامة وعابرة يتبادر إلى ذهنك أنك أمام مشهد من مسلسل "التغريبة الفلسطينية" بتقنية ثلاثية الأبعاد "3D". حيث يقف اللاجئون السوريون في طوابير بانتظار المعونات التي تتبرع بها الجمعيات والهيئات الخيرية. يترقبون القادم الغريب ليسألوه عن سبب زيارته للمخيم؛ فهم وبدافع "غريزة البقاء" يبحثون عن أي مساعدة تخفف عنهم الظروف اللا إنسانية التي يعيشونها.
أم أحمد، هي واحدة من الواقفين في انتظار معونتها. تقف مع والدتها وابنها أحمد "7 أعوام" الذي من الواجب أن يكون على مقاعد الدرس أو جالسا أمام شاشة التلفاز يتابع أفلام الكرتون إن كانت هناك عطلة مدرسية. نظرت لنا أم أحمد واستطاعت أن تلاحظ أننا أغراب عن المكان؛ فقد اكتسب سكان المخيم عادة اكتشاف الغريب بسرعة فائقة على الرغم من تدفق اللاجئين السوريين اليومي على المخيم.
بابتسامة بسيطة ودون أي سؤال بدأت الحديث عن قصتها، فـ " أم أحمد" لحقت بأهلها الى المخيم بعد أن صار الوضع غير محتمل في محل سكنها في مدينة "درعا" السورية. حملت أبناءها وهربت بهم مع زوجها من الموت الحقيقي الى الموت المعنوي؛ ليكون وقوفها على طوابير الإغاثة أكثر أماناً من وقوفها على طوابير الخبز بسوريا. فجأة قطعت حديثها لتسألنا "هل أنتم من عمّان؟". بدا السؤال عادياً للوهلة الأولى لكننا اكتشفنا بعد ذلك أن هناك حياة وامل تنبض داخل هذا الاستفسار؛ حيث أخبرتنا أن أختها تسعى لإحضارها إلى عمان وإلى "مخيم الحسين" تحديدا حتى يستطيع زوجها العمل في مهنته وهي تصنيع وبيع "البشاكير" والمناشف" بهدف الحصول على حياة أفضل؛ حيث يبدو أن الوصول إلى "مخيم الحسين" داخل عمان يستلزم المرور بـ "مخيم الزعتري" داخل المفرق!؛ لينضم اللاجئ السوري لشريكه الفلسطيني في مفهوم اللجوء.
أما أحمد ذلك الطفل بابتسامته التي تشعرك بالعجز؛ فهو لا يرغب بالذهاب للمدرسة كأي طفل يهرب من التزامها، وللأسف فإن الظروف السورية حققت له حلمًا وحيدًا من بين مجموعة أحلامه. أثناء حديثنا مع أحمد تدخل أحد الموجودين بالقول " اذا بدكم ياه وحبيتوه خدوه"؛ لترد الأم مسرعة: " هاد ابني" ليجيبها: "يعني لو أعطوكي عشرين دينار ما بتبيعيه؟". فتبتسم الأم وتقول "ولو مليون".
للوهلة الأولى؛ قد يبدو الحوار المذكور آنفا "مجرد مزحة"؛ إلا أن باستطاعة المتمعن للحالة العامة أن يستشف الأسوأ. فهذا الذي أقحم نفسه في الحوار يحاول تمرير رسالة مفادها "أن اللاجئين السوريين مستعدون لفعل اي شيء من أجل المال حتى وإن كان أمرا غير انساني" مما يدلل على نظرة البعض السلبية "للاجئ السوري" ناسين أو متناسين الظروف البائسة التي عاشها أولئك في سوريا والتي استمرت خارجها برغم اللجوء إلى مكان أكثر أمنًا و"إذن اختلف المكان وبقيت المأساة باختلاف التفاصيل".
ودعنا أحمد وأمه واتجهنا نحو الداخل لنرى عن قرب كيف يعيش أبناء "التغريبة السورية"؟. هل تكرر السيناريو في نفس المسلسل مع وجود بعض الاختلافات التي يحكمها التطور الزمني؟. في الداخل وبالرغم من كل الظروف اللا إنسانية واللا صحية التي يعيشها اللاجئون السوريون الا أنك تكتشف بأنك أمام مدينة متكاملة أو بالأصح قرية متكاملة. وبرغم بساطتها وبُعدها عن حضارة المدينة الا انها تُلبي احتياجات سكانها قدر المستطاع وتجد في طياتها غريزة البقاء التي فرضت على اللاجئين العمل ضمن الإمكانيات القليلة واستغلال الممكن لفعل اللا ممكن. في المخيم وعلى جانبي الشارع؛ يمكنك أن تجد جميع أنواع المحلات المبنية من الزينكو التي تحوي الكهرباء في داخلها أو محلات من نوع آخر وهي عبارة عن خيمة تُضاء بفانوس يعمل بالطاقة الشمسية.
الدكاكين والخيم تتنوع بين مخابز وبقالات لبيع جميع ما قد يخطر بالبال. فبسطات الخضروات والفواكه تتواجد بشكل ملحوظ وكذا تنتشر محلات الحلويات الشامية من "عوامة وكرابيج حلب واصابع زينب" في الأرجاء إضافة إلى محلات بيع "غزل البنات" والبوشار.
كما وتقع عيناك أيضا على الباعة المتجولين الذين تنوعت بضاعتهم ما بين الدخان وبطاقات الشحن للموبايل وبسطات لبيع الملابس والأحذية إضافة للمقاهي التي تبيع القهوة والشاي والأراجيل ويتوفر بها التلفاز الذي يصل هؤلاء بالعالم الخارجي حيث يجتمع حوله أبناء المخيم لمتابعة آخر التطورات والأحداث السياسية التي تشهدها بلدهم الأم سوريا.
قصص كبيرة يحتويها المخيم؛ فالطفولة الضائعة هناك والعشق المحروم من تفاصيله العذبة ورجال يعيشون البطالة المفروضة عليهم يفترشون الارض ويجلسون في المقاهي. يخبرون كل غريب عن قصصهم بحماسة لا تكل ولا تضعف وذلك -ربما- رغبة منهم في عدم النسيان. أو هي ربما مجرد طريقة لملء وقتهم والتعبير عن أنه لا تزال لهم فائدة في هذه الحياة.
حكايات كثيرة لنماذج عدة رصدناها من مخيم الزعتري انتظروها كل يوم أحد تحت عنوان: "حكايات من مخيم الزعتري"
نورا خليل العزوني