لا يجوز تأجيل معالجة تفاقم عجز الميزانية
ارتفع عجز الميزانية في العام 2012 بنسبة حوالي 30 في المئة عن العام 2011 فبلغ نحو 5900 مليار ليرة. ونتج ذلك من زيادة غلاء المعيشة تنفيذاً عملياً للجزء الأكبر من «سلسلة الرتب والرواتب» من دون تأمين إيرادات إضافية لتغطيتها، كما نتجت الزيادة الكبيرة في العجز من ارتفاع دعم الكهرباء. كل ذلك برغم نجاح وزارة المال في زيادة مداخيل وتخفيض معدلات الفوائد على سندات الخزينة لآجال طويلة إلى مستويات متدنية (مقارنة مع سندات دول تحمل التصنيف نفسه). ولذلك إذا أخذنا بعين النظر الأزمات الحادة التي تعرّض لها العديد من الدول الأوروبية المهمة فالمجازفة كبيرة في تأخير المباشرة في معالجة تفاقم عجز الميزانية اللبنانية ولو لفترة الانتخابات.
أملنا كبير في الحكومة الجديدة ولو كانت انتقالية
نرجو أن تنعكس نسبة الإجماع في التكليف على التأليف، فتبصر الحكومة الجديدة النور بسرعة، فتنكب ليس على إنجاز الانتخابات فقط بل المباشرة بمعالجة العجز المتفاقم بجرأة ومسؤولية أيضاً. ونأمل أن تكون مباركة السعودية للرئيس سلام مؤشراً إيجابياً لعودة الاستثمارات والسياحة الخليجية. ولكن منذ 2012 ظهرت بوادر مالية مقلقة، فمن جهة عرف لبنان لأول مرّة منذ 2006 عجزاً أولياً في ميزانيته، ومن جهة أخرى انعكست سلبياً نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي، فبعد أن انخفضت تدريجياً من 185 في المئة إلى 137 في المئة من المنتظر أن تتجاوز 140 في المئة في العام 2013. ومع ذلك، وتحت الضغط النقابي والمصالح الانتخابية للأحزاب تمّ إقرار «سلسلة الرتب والرواتب» مع اقتراح رسوم وضرائب إضافية لتغطية أكلافها مبدئياً. علماً أن وزير المال محمد الصفدي نفسه يعتبر هذه الموارد غير كافية. ومن يضمن من طرف آخر أن يوافق مجلس النواب على كلّ هذه الموارد الجديدة بعد أن يقرّ السلسلة، والأخطر من ذلك انعكاس هذه السلسلة على كلفة رواتب المتقاعدين.
من دون تضخيم للمخاطر ولكن بلا استهتار بها
من المعلوم أن المعطى المالي لم يأخذ يوماً حيّزه الطبيعي في الحياة السياسية اللبنانية بل كان جزءاً هامشياً منها، إذ يستهتر معظم المسؤولين اللبنانيين بالمخاطر المالية، ويعتقدون أن المصرف المركزي والمصارف التجارية ستؤمّن في النهاية تمويل عجوزات الميزانية المتفاقمة والمتراكمة.
لا نودّ تضخيم هذه المخاطر ولكننا في المقابل نرى أنه من عدم المسؤولية تجاهلها والاستهتار بها. ففي النهاية أصبحت المصارف المموّل الرئيسي للدين العام وحتى لو أرادت الاستمرار في هذا الدور (وهذا بنظرنا غير سليم) فهي لن تستطيع تمويل العجوزات المتزايدة في الميزانية، إذ انخفضت نسبة نموّ الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية. وهذا ما يحصل حالياً، فبعد أن بلغ معدّل النموّ السنوي لهذه الودائع 14,9 في المئة سنة 2009، انخفض هذا المعدّل إلى 6,2 في المئة سنة 2012، وبرأينا هذا النموّ الأخير ناتج بصورة أساسية من ازدياد معدّل التسليف بالعملة الأجنبية (بمعدل 9,2 في المئة سنة 2012).
فالإقراض يُنتج الودائع Le Crédit crée le Dépôt. ولكن مثل هذه الزيادة في الودائع الناتجة من زيادة التسليف، لا تؤمّن للمصارف سيولة إضافية يمكن إقراضها للدولة. علماً أن ميزان المدفوعات اللبناني بعد أن أظهر فائضاً مستمراً بين 2007 و2010 إذ بلغ هذا الفائض 7889 مليون دولار سنة 2009 سجّل هذا الميزان الخارجي عجزاً بمبلغ 1996 مليون دولار سنة 2011 وعجزاً بـ1537 مليون دولار سنة 2012.
تأخر من 7 إلى 10 سنوات عن إسرائيل في إنتاج الغاز والنفط
لعلّ أفضل مثال على الاستهتار المتمادي في الأوضاع المالية ونتيجة للتعقيدات والخلافات اللبنانية، أننا سنتأخر من سبع إلى عشر سنوات في إنتاج النفط عن إسرائيل التي باشرت إنتاج الغاز في آذار 2013 في حقل مجاور للبنان. كلّ ذلك برغم أن لبنان بحاجة ماسة وسريعة لهذه الثروة نظراً لتفاقم عجز الميزانية وحجم الدين العام.
ففي نهاية آذار 2013 بدأ ضخ الغاز من حقل تمار البحري الإسرائيلي القريب من الحقول اللبنانية، ويقدّر كبير اقتصاديي الوكالة الدولية للطاقة فتيح باريل ان ما اكتشف حتى الآن من نفط في إسرائيل، يزيد من سبع إلى ثماني مرات عن حاجة الدولة العبرية من الطاقة.
ولعلّ قبرص أبلغ درس للبنان لعدم الاتكال على الإيرادات النفطية المستقبلية. فبرغم أن هذه الجزيرة تقدّمت بمراحل على لبنان في تلزيم عقود استخراج الغاز والبترول، فوقّعت عقودا بهذا الشأن مع أكبر الشركات العالمية منذ مطلع 2012، فان ذلك لم يحمِ قبرص من الوقوع في أزمة مالية حادّة. ولم يُنقذ قبرص من الإفلاس إلا الدعم المالي الأوروبي فيما لا يمكن للبنان بعد الآن الاتكال على دعمٍ مالي خارجي محسوس.
ويفصل لبنان عن الاستفادة من تدفق إيرادات الغاز والبترول سبع سنوات أو على الأرجح عشر سنوات، وخلال هذه الفترة تجري ثورة تكنولوجية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لاستخراج النفط الصخري (Schiste) بأسعار رخيصة ستنافــس بقوة مصــادر الطاقــة الأخرى، لا سيــما النفــط المستخرج كما في لبنان من أعماق البحر وهو مبدئياً الأعلى كلفة. وفي كل الأحـوال لا يمكن تحديد الكميات الحقيقية لموارد الغاز والنفط قبل بدء عمليات التنقيب، علماً أن لبنان قد يواجه «فجوات قاحلة» تشبه ما اكتشفته إسرائيل في قعر بحرها.
الأمر الذي عكسته الفترة الطويلة التي استغرقها تعيين هيئة إدارة قطاع النفط، ومن المنتظر أن يتأخر اتخاذ القرارات الأخرى إذا لم تتحسن الأوضاع السياسية والأمنية.
الإنجاز المالي الأكبر الاستقرار النقدي على مدى عقدين
فممّا لا شك فيه أن مصرف لبنان تمكن فعلاً من تأمين الاستقرار النقدي على مدى عقدين برغم الأحداث الجسام التي عرفها لبنان خلال هذه الفترة. وهذا النجاح فريدٌ من نوعه؛ فدولٌ أخرى عربية وأوروبية مرّت في ظروف أقل صعوبة أو قسوة ولفتراتٍ أقصر، وبرغم ذلك لم تنجح اقتصادياتها في الصمود أو مواجهة الأزمات.
فعلى سبيل المقارنة، عرفت مصر خلال العامين الماضيين تغيّرات سياسيّة جذريّة، ولكن من دون حروب أهلية أو خارجية كما حصل في لبنان، ومع ذلك خلال السنتين الأوليين من الثورة المصرية، تعرّض الجنيه المصري إلى ضغوطاتٍ كبيرة أدّت إلى انخفاضه بحوالي 16 في المئة.
فقدت بيروت دورها كملجأ آمن للثروات في زمن الثورات
من الخطأ الجسيم تحميل «الربيع العربي» مسؤولية الانخفاض في تدفق أموال المستثمرين نحو لبنان، بل على العكس، لو عرف بلدنا الأمن والاستقرار «لاجتاحه» المستثمرون والسيّاح والمال «الجبان»، بل فوّت لبنان الفرص التي انبثقت عن ربيع العرب. ويجب أن يفهم أصحاب القرار من الاتجاهات السياسية كافة، أن مصلحة ناخبيهم، لا سيما من الطبقات الوسطى والفقيرة، هي في إقناع السيّاح والمستثمرين في لبنان بأن الاستقرار الأمني مؤمن فيه بشكلٍ ثابت ومتين وعلى المدى الطويل.
وضع قواعد مالية ذهبية
لا بدّ من وضع قواعد مالية «ذهبية» بقانون دستوري يصدر بأكثرية الثلثين ولا يعدّل إلا بقانون دستوري آخر ينصّ على ما يلي:
- تخفيض تدريجي لمعدل الدين العام للناتج المحلي الذي يقترب حالياً من 140 في المئة (وهو أعلى مستوى عربي) وذلك بخفض عجز الميزانية واتباع سياسة فعالة لزيادة معدّل النموّ الاقتصادي.
- لطمأنة المستثمرين في لبنان، إصدار قانون ينصّ منذ الآن على أن جميع الإيرادات النفطية المستقبلية ستودع في حساب لدى مصرف لبنان يخصّص كاملاً لتخفيض معدل الدين العام للناتج القومي إلى 60 في المئة، ومن بعدها تخصّص هذه الإيرادات بالأفضلية للمحافظة على هذا المعدّل المقبول دولياً إن لم يكن لتخفيضه.
د. نعمان الأزهري، رئيس مجلس إدارة «بنك لبنان والمهجر»