بقلم : د. واصف منصور، صحيفة العلم المغربية
أعدت جامعة الدول العربية مؤخرا تقريرا خطيرا عن هجرة العقول العربية الى الخارج، أشارت فيه إلى أن هناك حوالي أربعمائة وخمسين ألف من العلماء والأطباء والمهندسين ذوي الكفاءات العالية من العرب في البلاد الأوروبية والأمريكية، بسبب أن المجتمعات العربية أصبحت بيئات طاردة للكفاءات العربية، مما جعل ظاهرة هجرة العقول العربية إلى الخارج كارثة حقيقية.
وفي نفس الوقت، أعد مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية دراسة أظهرت أن نسبة كبيرة من الطلاب العرب الذين يتابعون دراساتهم الجامعية في الخارج لا يعودون الى أوطانهم، فعلى سبيل المثال نجد أن حوالي 34٪ من الأطباء الأكفاء في بريطانيا من العرب. وقالت الدراسة أن الكفاءات العربية المهاجرة تتوجه بالدرجة الأولى نحو الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا، وفي الدرجة الثانية نحو باقي الدول الأوروبية وأستراليا. وأضافت الدراسة أن الدول العربية تتكبد خسائر تفوق المائتي مليار دولار سنويا بسبب هجرة العقول العربية إلى الخارج.
لا يمكن أن نضع كل اللوم على العلماء العرب من مختلف التخصصات عندما يهجرون أوطانهم، ويصبحون مواطنين لدول أخرى، فالمثل العربي الشعبي يقول " القط لا يهرب من دار العرس" ، فلو وجد هؤلاء العلماء تشجيعا أو على الأقل قبولا من الممسكين بزمام الأمور في بلدانهم لما هاجروا.
ولكن كيف سيأتي هذا القبول أو التشجيع ونحن نرى مرارة الواقع الذي تعيشه مختلف أقطارنا العربية؟ فنادرا ما نجد الشخص المناسب في المكان المناسب، فتجد أحيانا شخصا لا علاقة له بأمور العلوم والتكنولوجيا وزيرا للبريد أو البحث العلمي، أو عسكريا بارعا في العلوم الحربية وزيرا للسياحة، أو متخرجا من كلية الآداب مديرا لمؤسسة تعنى بالأبحاث الصناعية، أو متخرجا من كلية الحقوق مشرفا على مؤسسة تعنى بالبحث عن الماء أو النفط.
فهل سيقبل هذا المسؤول أن يفتح الأبواب لأشخاص مختصين وعلماء في ميدانهم أن يعملوا في المؤسسة التي يديرها وكأنها ملك شخصي له؟ هل يقبل أن يظهر جهله أو ضحالة معلوماته أمام علم وتخصص هذا العالم؟ وأخيرا فإنه يرفض إدخاله إلى المؤسسة، وحتى إذا قبل به فإنه يضعه في مكاتب لا يفعل فيه شيئا أو يعيّنه مسـؤولا عن قسم هامشي أو في غير اختصاصه، خشية أن يأخذ مكانه.
ولا يمكن أن نضع كل اللوم على العلماء العرب المهاجرين، لأن درجة التطور العلمي والتكنولوجي في كثير من أقطارنا لم تصل إلى الحد الذي تستوعب أمثال هؤلاء العلماء. ولأن غالبية أقطارنا لا وجود للتخطيط البعيد أو المتوسط المدى لديها، فهي تصرّف الأمور على قاعدة (لك الساعة التي أنت فيها)، وهي مرتاحة لوضعها الحالي حيث تستورد ما تحتاجه من آليات أو تقنيات، أو مفروض عليها هذا الوضع من قبل قوى تضمن للقائمين على الأمور البقاء في مقاعدهم الوثيرة التي لم يصل غالبيتهم إليها عن طريق الديمقراطية الحقة.
صحيح ما قلناه، إلا أن بعض اللوم يمكن أن يوجه لهؤلاء العلماء المهاجرين لأن بعضهم لهث وراء المكسب المادي، وبعضهم من أصحاب التخصصات التي لها علاقة بتطوير أسلحة الدمار الشامل أو التكنولوجيا النووية سقط في حبائل أجهزة ومؤسسات مرتبطة بأجهزة المخابرات الدولية، وبعضهم لم يكن لديه القدرة على احتمال الأوضاع غير الطبيعية في بلدانهم، ولم يكن عنده الرغبة في التحدي والروح الوطنية التي تجعله يصمد ويواصل، فآثر الراحة على المعاناة وهرب أو هاجر.
ولنا أن نتخيل الأوضاع في وطننا العربي لو كان هؤلاء الأربعمائة وخمسون ألف عالم من أبنائنا، تتوفر لهم الإمكانات المادية التي توفر المختبرات والتجهيزات المطلوبة، وكذا حرية واستقلالية العمل، كيف سيكون وضعنا ونحن حوالي المائتي مليون، وعلى مساحة من الأرض تقارب الأثنى عشر مليون كيلومتر مربع، ولدينا غالبية المخزون الاحتياطي من النفط العالمي وكذلك ثروات طبيعية من مختلف أنواع المعادن؟
كنا على الأقل سنكسب مائتي مليار دولار سنويا كما جاء في دراسة مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، مما يعني أن كل ديون الوطن العربي سيتم تسديدها في أقل من سنة واحدة، ويعني قدرا هائلا من تكدس المال وتراكم المعرفة يؤهلنا لأن نكون قطبا دوليا فاعلا لابد أن تحسب كل الأقطاب الأخرى حسابه، فلا تبقى حقوقه مهضومة وكرامته مهانة وأرضه محتلة.
اعذروني إذا حلمت وأنا مستيقظ، فكل المشاريع والمخططات العملاقة تبتدئ دائما بحلم.
© 2005 تقرير مينا(www.menareport.com)