يحق لعملات الاقتصادات الناشئة في آسيا أن تحتفي بأدائها المميز منذ بداية العام حتى الأن، حيث إن أداء عملات الأسواق الصاعدة في القارة الآسيوية هو الأفضل حاليا منذ الهزة التي تعرضت لها عام 2013.
لكن المشهد لا يبدو ورديا للجميع، إذ تبدو عملة الفلبيني "البيزو" كأنها ممزقة بين البقاء في هذا الاحتفال أحيانا والخروج منه في أغلب الأحيان. فبعد أن كان أداؤها أفضل من اقرانها من العملات الآسيوية، ومن بينها الروبية الإندونيسية تراجعت لتخسر موقعها وتواصل خسائرها للعام الخامس على التوالي.
ولتكشف جردة الحساب منذ الأول من يناير هذا العام حتى اليوم أن البيزو الفلبيني خسر 3.4 في المائة من قيمته بينما ارتفع الباهت التايلندي بما يعادل 7.9 في المائة.
المشكلة الأكبر أن أغلب التوقعات لا تصب في مصلحة البيزو، إذ يتوقع أن تواصل انخفاضها في الأشهر المتبقية من هذا العام وربما الربع الأول من العام المقبل، خاصة أن التوجهات الراهنة لصناع السياسة المالية في الفلبين، لا تبدو أنها تلقي بالا لانخفاض سعر صرف البيزو.
نيل برادلي المحلل المالي في بورصة لندن، يعتبر أن البنك المركزي الفلبيني يبعث برسائل قوية إلى الأسواق بأنه شديد الاهتمام بتحسين وضع العملة الوطنية، لكن الأسواق تعتقد أن الأمر لا يتجاوز حدود التصريحات الرسمية، دون ترجمة لها على أرض الواقع في شكل إجراءات ملموسة.
ويقول لـ "الاقتصادية"، "إإن أداء الاقتصاد الفلبيني يبدو جيدا للغاية، فخلال السنوات الخمس الماضية التي شهدت انخفاضا متواصلا في سعر صرف البيزو، حقق الاقتصاد معدل نمو يبلغ 6 في المائة، لكن مجموعة من العوامل تضافرت في ذات الوقت لتنال من سعر صرف البيزو
وتتسبب في وضعها المتهالك في الوقت الراهن".
وحول أبرز تلك العوامل يؤكد أن النمو الاقتصادي الإيجابي شجع الحكومة على القيام بعملية إصلاح وإحلال للبنية التحتية، ما استنزف جزءا كبيرا من الاحتياطيات النقدية الأجنبية، وأدى أيضا إلى تنامي العجز في الحساب الجاري، كما أن الخلافات السياسية في المجلس التشريعي حالت دون إقرار الإصلاحات الضريبية المطلوبة، والحرب التي يشنها الرئيس على تجارة المخدرات، وكذلك القتال الدائر في جنوب الفلبين ضد عناصر "داعش"، وتنامي النفقات العسكرية بطبيعة الحال، بعث برسالة سلبية إلى المستثمرين دفعتهم إلى توخي الحذر والحيطة في الإقبال على البيزو.
ويعتقد أغلب المختصين أن سعر الصرف المتوقع للبيزو في مواجهة الدولار مستقبلا سيكون 52 بيزو لكل دولار، وذلك قبل أن تبدأ العملة الفلبينية في استرداد بعضا من عافيتها في مواجهة الدولار.
على النقيض تماما من وضع العملة الفلبينية، يبدو البات التايلندي في وضع إيجابي لدرجة تزعج صناع القرار الاقتصادي في البلاد، حيث تحسن البات بشكل ملحوظ في مواجهة الدولار، والسبب يعود إلى نمو الاقتصاد التايلندي بنحو 3.7 في المائة خلال الربع الثاني من العام الجاري، وهو أسرع معدل نمو خلال أربعة أعوام. مع هذا لا تبدو تلك الأنباء إيجابية من وجهة نظر البعض.
ليزلي بيلي المختصة في أسعار الصرف والاستشارية في مجموعة من الشركات الاستثمارية البريطانية العاملة في آسيا، تعتقد أن الارتفاع المتواصل للبات سينعكس سلبا على الاقتصاد التايلندي.
وتقول لـ "الاقتصادية"، "إن عملة مفرطة القوة كالبات في الوقت الحالي قد تكون إيجابية على الوضع الاقتصادي لفترة قصيرة، لكن إذا واصلت جني مزيد من القوة في الأسواق والارتفاع خاصة في مواجهة الدولار، فإنها تنعكس ضررا على الاقتصاد الوطني".
وتعتبر ليزلي أن العملة التايلندية إذا ما واصلت الارتفاع فستضر بالقطاعات الاقتصادية الرئيسية في البلاد وفي مقدمتها قطاع السياحة، ولن تصب الزيادة في سعر الصرف في مصلحة جذب الاستثمارات خاصة أن الدولار في حالة من الضعف، كما أن مواصلة ارتفاع عملة لاقتصاد ناشئ كالاقتصاد التايلندي سيجذب المضاربين الساعين إلى الحصول على أرباح سريعة، وهو ما يزيد من المخاطر الاقتصادية.
وبالفعل فإن البنك المركزي التايلندي أعلن يوم الإثنين الماضي أنه سيأخذ تدابير إضافية للحد من المضاربة على البات.
وبين البيزو الفلبيني المأزوم والبات التايلندي المتألق، تتحرك الروبية الإندونيسية والرنجيت الماليزي بعقلانية واعتدال، إذ نجح صناع السياسات المالية في البلدين في القضاء على التقلبات السعرية التي انتابت العملتين.
لكن المختص المصرفي جميس آرثر يحذر من أن يوجد ذلك شعورا زائفا بالرضا عن الذات، الذي يكون المدخل لهزات مستقبلية.
ويؤكد لـ "الاقتصادية" أن هذا الوضع العقلاني في سوق العملة الإندونيسية والماليزية يوجد أحيانا حالة من عدم الحيطة خاصة بين شركات التحوط، ما يعرضها للخسارة.
وكانت الروبية الإندونيسية والرنجيت الماليزي الأكثر تقلبا بين العملات الآسيوية، لكن بفضل إجراءات البنكين المركزيين في البلدين، فإن العملة الإندونيسية والماليزية هما الآن أقل تقلبا من اليوان الصيني، فقد نجح البنك المركزي الإندونيسي ونظيره الماليزي في اتخاذ إجراءات حاسمة العام الماضي، للحد من تقلبات العملة التي شهدت ارتفاعا شديدا في أعقاب فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بمنصبه رئيسا للولايات المتحدة، حيث تم التصدي للمضاربات بشكل فعال، ونجم عن ذلك تقلبات محدودة للغاية ـ فالرنجيت يراوح سعر صرفه الآن بين 4.25 و4.30 رنجيت لكل دولار، وذلك منذ نهاية شهر مايو الماضي وذلك مقارنة بـ 3.85 و4.49 العام الماضي.
بينما تم تداول الروبية الإندونيسية في نطاق تغير يبلغ 1.3 في المائة فقط مقارنة بـ 9 في المائة العام الماضي. وأدى هذا الاستقرار إلى جذب مزيد من الاستثمارات.
وتشير بيانات البنك المركزي الإندونيسي إلى أن استقرار العملة الوطنية أسهم في جذب 8.3 مليار دولار من التدفقات إلى السندات الإندونيسية في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، بينما بدأت الحيازات الأجنبية للسندات الماليزية في الارتفاع منذ شهر مارس الماضي بعد أن بلغت أدنى مستوى منذ عامين.
بدوره، يشير لـ "الاقتصادية" الدكتور ديفيد بلاك أستاذ النقود والمصارف، إلى أنه يجب الأخذ في الحسبان أن جزءا من تحسن عملات الاقتصادات الناشئة في آسيا يعود إلى الوضع المتراجع للدولار الأمريكي، والوضعية الدفاعية التي يمر بها. ولهذا فإن الاجتماع المقرر لمحافظي البنوك المركزية في العالم، الذي سيعقد في الولايات المتحدة هذا الأسبوع، سيؤثر بشكل ملحوظ في مسار العملات الآسيوية خلال الأشهر المتبقية من العام الجاري، فقراءة الأسواق الآسيوية للكلمة التي ستلقيها جانيت يلين رئيسة المجلس الفيدرالي الاحتياطي الأمريكي، وكذلك كلمة محافظ المصرف المركزي الأوروبي ماريو دراجي ستؤثر كثيرا في تعامل الأسواق مع العملات الآسيوية.
وتابع "إذا أخذ حديث جانيت ودراجي منحنى انتقاديا بالحديث مثلا عن الخلل في الحساب الجاري أو قرب انتهاء سياسات التيسير الكمي، فإني أتوقع أن تبدأ أسعار صرف العملات الآسيوية في الانخفاض، أما إذا تبنوا موقفا أكثر مرونة وإشادة بالأداء الاقتصادي للاقتصادات الناشئة في آسيا، فسنشهد تحسنا طفيفا في أسعار صرف العملات الآسيوية".
لكن البعض يعتقد أنه بغض النظر عن أحاديث جانيت يلين ودراجي خلال الاجتماع المقبل لمحافظي البنوك المركزية، فإن بعض عملات الاقتصادات الآسيوية الناشئة ستواصل تقدمها.
من جهته، يؤكد لـ "الاقتصادية"، نيل برادلي المحلل المالي في بورصة لندن أن الروبية الهندية على سبيل المثال ستحافظ على وضعها القوي، حيث حققت زيادة بنحو 6 في المائة في مواجهة الدولار الأمريكي منذ بداية العام وحتى الآن، وذلك بفضل معدل النمو الذي بلغ 7 في المائة، وكذلك معدل الفائدة الحقيقي "معدل الفائدة مخصوم منه معدل التضخم" المرتفع في الهند مقارنة بمعظم الاقتصادات الناشئة في آسيا، والنجاحات التي يحققها الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية، ما خفض المخاطر الناجمة عن عدم الاستقرار السياسي، وشجع المستثمرين على ضخ مزيد من التدفقات المالية إلى الهند.
اقرأ أيضًا:
تقلبات الأسواق الناشئة تعزّز أحجام تداول العملات في بورصة دبي للذهب والسلع
غيمة من التشاؤم تسيطر على الأسواق الناشئة خوفاً من نقص الدولار
ارتفاع التدفقات المالية في الأسواق الناشئة إلى تريليون دولار خلال 2017