صندوق النقد الدولي والأزمة في مصر

تاريخ النشر: 10 أبريل 2013 - 01:04 GMT
صندوق النقد، في حياته الجديدة هذه، يقترح المساعدة النقدية المباشرة للفئات الاكثر فقراً بديلا عن دعم أسعار المواد
صندوق النقد، في حياته الجديدة هذه، يقترح المساعدة النقدية المباشرة للفئات الاكثر فقراً بديلا عن دعم أسعار المواد

احترقت مصر أو كادت خلال اليومين الماضيين. ولكن اللافت هو أن كل المكونات الحاضرة تذكِّر بما جرى قبيل ثورة «يناير» في كنيسة القديسيْن بالإسكندرية، حين وقع عشرات الضحايا بين قتلى وجرحى، وسط تلاطم غامض للناس، اختلط فيه الحابل بالنابل كما يقولون. تلك الحادثة بدت وقتها مستغربة، ليظهر بعد ذلك أنها «مشبوهة»، بمعنى وقوعها بفعل تخطيط يُقصد من ورائه تحقيق أغراض لا صلة لها بما هو ظاهر. لم تكن الثورة قد قامت بعد، وكان نظام مبارك يبدو راسخاً رغم إفلاسه، ولم يكن أحد ليجرؤ على اتهام حبيب العادلي، وزير الداخلية، بفبركة الحدث المجرم، من دون أن يبدو اتهامه نوعاً من الثرثرة الثورية في غير محلها، من تلك التي أقلع الجميع عن تصديقها، أو من دون أن يبدو صاحب عقل تآمري، يرى أصابع الاستخبارات خلف كل ما يجري... سوى أن التهمة وجهت فعلاً ورسمياً إلى العادلي وأجهزة الداخلية بعيد ذلك. وهي لم تختف من التداول، إذ تخرج وقائع تخصها بين حين وآخر، وإن كان وضعها في الضوء والحسم بشأنها قد ضاع في دهاليز المرحلة الانتقالية المضطربة، حيث لم ينطلق ما يمكن أن يعتبر ركنا أساسياً للانتقال، أي المحاكمات العادلة والشفافة، إن لم يكن على كل ما ارتكبه جهابذة النظام السابق ، فعلى أفعال جرمية مشهودة، وبخاصة تلك التي تتسبب بإحداث سُعار مذهبي وطائفي، يشقق بشكل كبير وحدة الجماعة الوطنية، بل يهددها كيانياً. حبيب العادلي ذاك كان أبو الفضائح (واحد من آبائها!). ولكن تلك التي تقع في باب الجنس أو النهب والكوميسيون، تبدو» لعب عيال» بالمقارنة مع نشاط هو الاصل، لعل الوزير كان يعتبره «سياسة»، كتفجير كنيسة القديسيْن تلك، واستحضار المكلفين (هنا سلفي متعاون كما قيل في المحاضر الرسمية التي ضبطت بعد ذلك، يورِّط جماعته) وتركيب السيناريو وتوضيب الدلائل الحسية، مثل أشرطة كاميرات المراقبة... بحيث تتحقق أغراض عدة، ويمكن استغلال الفعلة في اتجاهات قد تبدو متناقضة.

ماذا جرى في العباسية ومن هم هؤلاء «المجهولون» الذين اشتبكوا مع مشيعي ضحايا أقباط وقعوا في حادث سابق لا يقل غموضاً. مجهولون يطلقون قنابل المولوتوف والرصاص داخل الكنيسة وخارجها، ويقتلون ويجرحون ويروعون.

مطلع الشهر الجاري زار وفد من صندوق النقد الدولي مصر. تلك هي الزيارة الرابعة على الأرجح خلال السنة الاخيرة، منذ جاء السيد مرسي الى السلطة. وما زال الهدف هو منح مصر قرضاً بـ4,8 مليارات دولار. للصندوق كالعادة شروطه لإقرار الدين، لأنه يريد استرداده خلال مهلة ثلاث سنوات، ولأنه يشخِّص الأعطاب التي ادت بالبلد المدين الى حافة الكارثة من زاوية نظر خبرائه، ووفق مؤشرات يقع ضمنها بالتأكيد الهدر والفساد وسوء الإدارة، ولكنها تتعامل خصوصاً مع حركة الأرقام بطريقة مجردة. فلو تزيل الدولة دعمها عن القمح مثلاً أو المحروقات، لوفرت كذا وكيت. وهكذا يصل خبراؤها، بأناقتهم الكلاسيكية المفرطة، وهم أصحاب مرتبات عالية جداً، ومتخرجو جامعات عالمية انكلوـ اميركية مشهورة جداً (جداً!) الى البلد المعني، ويربطون إقرار منح القرض بتلك الشروط، التي تُسمى «إعادة هيكلة» والتي يقع على رأسها كف يد الدولة المحلية الى اقصى حد. «صندوق النقد» ذاك هو توأم «البنك الدولي»، وهما إبنا «بريتن وودز»، وأنشئا كحاكمية اقتصادية عالمية العام 1944 بينما كانت الحرب العالمية الثانية على وشك وضع اوزارها، رداً على أزمة 1930 الاقتصادية، التي ينسب اليها، من بين أشياء أخرى، صعود الفاشية. وللظرافة، فـ«الالتراـ ليبراليون» ظلوا يكرهون الصندوق، هو بالذات، على اعتبار انه «تدخلي»، بينما هم يرون أن «السوق» لا تحتاج لمثل هذه الأداة، وأن قوانينها كفيلة بتحقيق التوازن... الذي يفترٍض ان مليارات عدة من البشر فائضون عن الحاجة. ولكن الازمة الطاحنة التي انفجرت في 2008، ويقارنها البعض بسالفتها، أعادت الى الصندوق اعتباره، والحاجة إليه. وهو بدا مراجِعاً لقواعده، متساهلاً حيال الاختلالات في موازنات بعض الدول، مقابل شبكة الأمان الاجتماعي التي توفرها حكوماتها للناس. يا الله! ها الصندوق يتخذ ملامح إنسانية (القليل منها) تقطع مع تحوله خلال الفترة السابقة الى كابوس لدول عدة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، بسبب الكوارث التي تسببت بها هناك توصياته الصارمة، ليس لجهة إفقار الاكثر فقراً فحسب، وحرمانهم من الفتات (غير المنتِج، صحيح)، ولكن بدفعه اقتصاديات تلك البلدان نحو اعتماد وجهة اقتصادية أحادية الجانب، قد تكون ذات مردودية عالية وسريعة على خزائن الدولة، وقد تُدخل البلد المعني في دورة «النظام الاقتصادي العالمي».

مصر الثورة تخبطت منذ سنتين، وبدا الامساك بالسلطة، اي الوصول الى أغلبية «البرلمان» ورئاسة الجمهورية الخ... اهم بكثير من امتلاك تصور او تخطيط اقتصادي لبلد مستنزف تماماً بالنهب وبسياسات لم يكن هدفها إلا تحقيق أعلى ربحية لشريحة جديدة من رجال الأعمال، الوكلاء عن شركات عالمية، والمضاربين بكل شيء. شريحة توسعت، ولكن ذلك لم يعنِ حياة الناس. «الاخوان المسلمون» الذين يحكمون مصر، والذين اعلنوا أن حكمهم ينهي «المرحلة الانتقالية» (!)، يديرون البلاد بالتي هي أحسن. وهكذا تضافرت عوامل عدة لجعل الاحتياطي النقدي يهبط من 36 مليار دولار قبل الثورة الى 13 ملياراً، ما يكفي لتوفير حاجات الاستيراد لثلاثة أشهر. فهل سيتمكن حكم «الاخوان» من الإقدام على ما لم يتجرأ عليه نظام مبارك مخافة غضب الناس الذين ستحرمهم إجراءات صندوق النقد، لو أُقرت، الخبز، والمحروقات، وسائر المواد الاساسية المدعومة. صندوق النقد، في حياته الجديدة هذه، يقترح المساعدة النقدية المباشرة للفئات الاكثر فقراً بديلا عن دعم أسعار المواد، الذي يمثل البند الأكبر في موازنات الدول، والذي يستفيد منه الفقير وغير الفقير. فالجميع يشتري تلك المواد بشكل عام، ويستفيد من اسعارها المدعومة، (حتى لو كان غير الفقراء يتجهون الى «السوبرماركت»، ويشترون موادًّ مميزة لا يشملها الدعم، ولكن الفقراء هم الأغلبية الساحقة من السكان!). ويفترض «الإخوان»، أن يكونوا الأقدر على فرض تلك الإجراءات غير المحببة، وفي الوقت نفسه على تطبيق الدين الجديد للصندوق الذي يلائم هواهم، أي تعميم ومأسسة الإحسان.

ما لا يفهمه الصندوق المتعنت، أن سلطة «الاخوان» تحتاج الى ترسيخ أخير في الانتخابات النيابية التي يفترض أن تجري في تشرين الاول القادم. وأن الامر الحاد يقع عند قطوع الصيف. للفوز في تلك الانتخابات، يحتاج «الاخوان» لدعم الصندوق. والصندوق يريد ان يلمس إجراءات قبل أن يدعم. الحلقة مفرغة. وعلى أية حال، فلا سبيل لتلافي الغضب الشعبي والانتفاضات. لماذا لا تمنّ قطر على الدكتور مرسي بذلك المبلغ التافه؟ هذا سر أول يتعلق بعناصر ضبط الجزيرة الصغيرة، التي لن يُسمح لها بتخريب شغل مؤسسات دولية حاكمة. هل الحل الوحيد المتبقي هو... أحداث العباسية؟