لم تكن الأنباء جيدة لصناعة السيارات الصينية التي يقدر عائدها بتريليون دولار سنويا، حتى قبل تفشي وباء كورونا.
ففي منتصف العام الماضي، وقبل نحو خمسة أشهر من تفشي الوباء في مدينة ووهان الصينية، كان عديد من مصانع السيارات يعمل بجزء من طاقته الإنتاجية.
ونظرا إلى أن الاستثمارات الأجنبية تلعب دورا مهما في صناعة السيارات الصينية، كانت المخاوف تثار من إمكانية انسحاب المستثمرين الأجانب من هذا القطاع، والخروج من أكبر سوق للسيارات في العالم.
بحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وقبل شهر واحد من اكتشاف الحالات الأولى لوباء كورونا في الصين، كانت تقديرات المسؤولين تشير إلى انخفاض مبيعات السيارات إلى 26 مليون سيارة خلال هذا العام، بتراجع 8 في المائة، لتواجه أسواق السيارات الصينية ثاني عام على التوالي من الانكماش، إذ لم تتجاوز مبيعات عام 2018 أكثر من 28 مليون سيارة بانخفاض 3 في المائة عن عام 2017.
في المتوسط تقدر مبيعات الصين من السيارات خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام بنحو ستة ملايين سيارة، لكن هذا العام لم تتجاوز المبيعات حاجز 3.7 مليون سيارة فقط،، حيث قدر الانخفاض بـ42 في المائة مقارنة بالعام الماضي.
وفي شباط (فبراير) كان الانهيار هائلا وغير مسبوق، إذ تراجعت مبيعات السيارات 79 في المائة، ولم تفلح الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة إلا في بيع 310 آلاف سيارة فقط.
لا شك أن تلك الأرقام تبدو مزعجة للغاية في دولة تفتخر بأنها تحتل المرتبة الأولى في إنتاج السيارات في العالم منذ 2008، حيث يبلغ إنتاجها بمفردها ما يعادل إنتاج الولايات المتحدة واليابان مجتمعتين، أو أكثر من إنتاج الاتحاد الأوروبي، الذي يضم عمالقة في إنتاج السيارات، مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
وفي الواقع، فإن هذا الفخر يُستمد جزء منه من كون صناعة السيارات صناعة حديثة نسبيا في الصين، وغير ضاربة الجذور في الاقتصاد الوطني، بخلاف الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان.
فقبل وصول الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة، كانت ثمانية أعوام من الحرب مع اليابان، ومن بعدها ثلاثة أعوام من الحرب الأهلية بين الشيوعيين وخصومهم، تعني باختصار أنه لم تكن هناك تقريبا صناعة سيارات يمكن الحديث عنها في ذلك الوقت، ونظرا إلى التحالف بين الصين والاتحاد السوفياتي أسس مشروع لإنتاج السيارات عام 1953 وأنتج أول عشر شاحنات عام 1956، وظل هذا الوضع الضعيف لتلك الصناعة حتى تسعينيات القرن الماضي، ففي عام 1985 لم يتجاوز إنتاج الصين 5200 سيارة.
يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور أوليفر لو أستاذ الاقتصاد الآسيوي في جامعة أكسفورد، "كانت شركة فولكسفاجن الألمانية في مقدمة الشركات الدولية التي أدركت تأثير التغيرات الاقتصادية التي تمر بها الصين في ثمانينيات القرن الماضي في سوق السيارات العالمية، وفي عام 1985 تمكنت من الوصول إلى السوق الصينية، وكانت تلك مقدمة البداية لانتعاش صناعة السيارات في الصين، وبحلول عام 1994 صنفت الحكومة الصينية صناعة السيارات على أنها صناعة أساسية لتحقيق النجاح الصناعي والتنموي المستهدف، ونشرت الحكومة لأول مرة في تاريخ الصين أول سياسة رسمية لدعم صناعة السيارات تتضمن تشجيع الملكية الفردية للسيارات".
انضمام الصين عام 2002 لمنظمة التجارة العالمية، أسهم في إزالة الحماية على الصناعات المحلية، وخفض الرسوم الجمركية بشكل كبير، ونما إنتاج السيارات بمتوسط 21 في المائة سنويا بين 2000 - 2007، ومنذ ذلك التاريخ بدت الصين الرقم الرئيس في صناعة السيارات العالمية.
حاليا، هناك عديد من التساؤلات يحيط بمستقبل صناعة السيارات الصينية بعد جائحة كورونا، فقبل تفشي الوباء تراجعت المبيعات في العامين الماضيين، ثم تلقت الصناعة ضربة موجعة نتيجة الفيروس.. الأخطر الآن يتعلق بالاتهامات الأمريكية والأوروبية للصين، وتحميلها بشكل واضح وصريح مسؤولية تفشي الفيروس عالميا، نتيجة ما يعتقد أنه عدم شفافية وإخفاء معلومات متعلقة بالفيروس من قبل بكين.
وصرح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بأن الكشف عن تلك المعلومات كان كفيلا بتغير المشهد عما وصل إليه.
وسط تلك الأجواء تتنامى التوقعات بأن تشهد العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، مثل المملكة المتحدة من جانب، والصين من جانب آخر، تدهورا في الفترة المقبلة، وهو ما سينعكس سلبا على صناعة السيارات الصينية.
من جهته، يؤكد لـ"الاقتصادية" مات سميث المهندس الاستشاري في شركة فوكسهول للسيارات، أن النقطة المحورية وراء تقدم صناعة السيارات الصينية تعود إلى المشاريع المشتركة، وهي أداة الحكومة المفضلة للحصول على التكنولوجيا والنمو السريع للصناعة، ونتيجة ذلك تم تطوير هيكل شراكة معقد بين المستثمرين المحليين أو الدولة والشركاء الدوليين.
ويضيف، "هذا يوجد واقعا معقدا بعض الشيء، فالتكنولوجيا الغربية ضرورية لتطوير صناعة السيارات في الصين، وإذا قررت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة معاقبة الصين، ونجحتا في الضغط على الشركات الألمانية لخفض نشاطها الإنتاجي في الصين، فإن صناعة السيارات هناك ستتضرر بشكل ملحوظ، لكن في المقابل، فإن السوق الصينية من الضخامة والإغراء الناجم عن تصاعد استهلاك الطبقة المتوسطة من السيارات، بما يحد من رغبة المستثمرين الغربيين في مغادرة سوق السيارات الصينية".
لكن بعض الخبراء الاقتصاديين يتوقعون أن تكون صناعة السيارات الصينية في مهب الريح نتيجة الضغوط المقبلة من الولايات المتحدة وبعض حلفائها.
يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور هوليج نيك أستاذ التجارة الدولية في جامعة أدنبرة، "تلعب صناعة السيارات دورا حاسما في الاقتصاد الصيني، إذ يعتمد أكثر من 40 مليون شخص في البلاد على هذا القطاع للحصول على وظائف، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وتحقق الصناعة أكثر من تريليون دولار من العائدات كل عام، أي نحو 10 في المائة من إنتاج التصنيع الصيني".
ويشير إلى أن توجيه ضربة إلى قطاع صناعة السيارات في الصين سيوجد دوامة من التداعيات الاقتصادية المؤلمة للصين.
ويضيف، "بدأت الصين استئناف نشاطها في إنتاج السيارات، لكن العودة إلى أوضاع الإنتاج الطبيعية ستكون أمرا صعبا ومشكوكا فيه، فالاقتصاد يحاول الانتعاش، بعد أن حاولت الحكومة القضاء على الوباء، الذي أجبر المصانع على إغلاق سلاسل التوريد، خاصة في ووهان المركز الرئيس لصناعة السيارات، والمشكلة أن المستهلكين لا يظهرون رغبة حقيقية في اقتناء سيارات جديدة، وهذا تحد آخر سيتطلب من الحكومة إجراءات تحفيزية ضخمة".
يشير أغلب الخبراء إلى أن تراجع الاقتصاد الصيني وجائحة كورونا وتداعياتها، وضعا صناعة السيارات الصينية عند مفترق الطرق، ولإنقاذ تلك الصناعة لا يمكن للصين أن تقف عند حدود المعالجات المالية لدفع الأفراد والأسر والشركات إلى شراء مزيد من السيارات.
يؤكد لـ"الاقتصادية" مالتوس سميث من اتحاد منتجي السيارات البريطانية، أن الصين في حاجة إلى تغيرات جذرية في القيود واللوائح، بحيث يمكن للمنتجين والتجار الاستجابة بشكل أسرع لمواجهة الانكماش على المديين القصير والطويل، فهذا سيساعد صناعة السيارات الصينية ليس فقط على التعامل مع السلبيات التي تواجهها، لكن على جعلها أقدر على التنافس على المستوى الدولي.
ربما تكمن المشكلة الراهنة في أن صناعة السيارات الصينية تواجه تحديات جيوسياسية واقتصادية في آن.
وهذا يتطلب السماح لشركات السيارات بتنويع مجالات التمويل والتأمين وعقود الخدمة، كما يقول مالتوس سميث الذي يضيف، "صناعة السيارات الصينية لا تزال تعتمد على السوق المحلية، وليس التصدير إلى الخارج، ولا بد أن يتم بناء علاقة صحية بين الشركات المنتجة والتجار بدلا من العدائية التي تهيمن على علاقة الطرفين حاليا".
مع هذا يرى بعض الخبراء أن مبيعات السيارات في الصين وصلت إلى أدنى مستوى لها، ويصعب أن تشهد مزيدا من الانخفاض، ومعاودة النمو 1 في المائة بنهاية العام المقبل.
ورغم هذا النمو المتواضع، فإن الصين ستظل رقما صعبا في صناعة السيارات، نظرا إلى ضخامة السوق المحلية، وإلى كثافة الاستثمارات الأجنبية في الصناعة، بما قد يجعلها تتحمل الاهتزاز دون أن تكون معرضة للانهيار الكامل.