بالرغم من المصاعب التي تحملها منذ نعومة أظفاره، سطع نجم الملياردير محمد الطراد، مؤسس (Altrad Group) في العالم كله. وغدا قامة بارزة في المجتمع الفرنسي، وروائياً، ورجل أعمال من نوع خاص، وعصامياً من الطراز الأول. إنه ببساطة، من بواعث الأمل للمهاجرين العرب.
انتقل محمد الطراد من سوريا إلى مونبلييه في الجنوب الفرنسي عام 1969، في الوقت الذي كانت فيه مشاعر السكان المحليين معادية للعرب. فقبل ذلك التاريخ بأعوام قليلة، حصلت الجزائر على استقلالها عن فرنسا بعد حرب طويلة ودامية، أثارت ردود أفعال عنيفة تجاه أي شخص جزائري أو عربي.
يستذكر الطراد ذلك العام الذي حصل فيه على منحة دراسية في جامعة مونبلييه، تاركاً وراءه ذكريات مريرة في سوريا، حيث تخلى عنه والده وتوفيت والدته، وهو لما يزل طفلاً رضيعاً. لكنه تحمل قسوة العيش وبرع في دروسه، وأثبت جدارته إلى أن نال المواطنة الفرنسية. كما كتب رواية حازت على جائزة، وتزوج من فرنسية، واشترى فريق لعبة رغبي، وامتلك ملعباً يحمل اسمه، واستحوذ على شركة فرنسية لمعدات البناء.
واليوم، تعد (Altrad Group) مقرها مونبلييه، إحدى شركات السقالات الرائدة في مجال معدات البناء، حققت صافي أرباح قدره 144 مليون دولار، وإيرادات بنحو 2.4 مليار دولار عام 2016.
كذلك جمع الطراد الذي يملك ما نسبته 80 % من أسهم الشركة، ثروة قدرتها فوربس ب 1.6 مليار دولار. بعد أكثر من 4 عقود منذ وصوله إلى فرنسا، صار الطراد مثالاً ملهماً على ما يمكن للمهاجرين فعله في البلدان التي يرحلون إليها. لكن حتى بعد حصوله على وسام جوقة الشرف عن إنجازاته عام 2005 ، ما زال يشعر أنه عاجز عن أن يكون فرنسياً بالدرجة الكافية.
مؤخرًا، ثارت المشاعر المعادية للعرب والمسلمين مجددًا، عقب سلسلة من الهجمات الإرهابية التي ارتكبها مواطنون فرنسيون وبلجيكيون من أصول شمال أفريقية. وعزز ذلك من فرص الخطاب اليميني ممثلاً بمارين لوبان، التي غدت منافسة قوية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، تحت شعارات رفض الهجرة، والتحريض على كراهية الإسلام. غير أن ما يحدث لا يقتصر على فرنسا وحدها؛ فمع تصاعد الإرهاب العالمي ولجوء أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين وغيرهم إلى أوروبا وأمريكا، تترسخ كراهية الأجانب أكثر فأكثر. فيما يرى الطراد أن خطابات الرئيس ترامب وأمره التنفيذي بحظر السفر على مواطني 6 دول ذات أغلبية مسلمة، تطور مثير للقلق. يقول: “هذا أمر جديد ومرعب، لأنه صادر عن الرجل الأكثر نفوذًا في العالم”.
تزايد تدفق اللاجئين خاصة من سوريا زاد من حدة هجوم الجماعات الأوروبية المناهضة لاستقبال المهاجرين على الحكومات. الصورة لمجموعة من اللاجئين السوريين يستعدون للصعود على متن عبارة في جزيرة ليسبوس اليونانية. مصدر الصورة Getty Images. تصوير: Alexander Koerner
وبتأثير من ذلك إلى حد ما، يعمد الطراد إلى تحويل شيء من اهتمامه بعيدًا عن معدات البناء. ففي عام 2015 ، طلب منه الرئيس فرانسوا أولاند تولي قيادة مؤسسة (Agence France Entrepreneur) وهي منظمة حكومية تهدف إلى تعزيز روح الريادة في المجتمعات الأكثر فقرًا في فرنسا، أي ضواحي المدن على وجه التحديد. فوجئ الطراد بذلك، وعلق بقوله: “لم أعرف شيئاً في السابق عن هذه المنظمة”. مع ذلك، قبل بهذا التكليف، وبدأت الوكالة عملياتها في أبريل عام 2016 ، لتركز نشاطها على 12.8 مليون مواطن فرنسي يعيشون في 1,500 مجتمع محلي منخفض الدخل. بينما يقدر الطراد أن 90 % من هؤلاء السكان هم من الجيل الأول أو الثاني أو الثالث لمهاجرين من أصول عربية.
والغريب أن الحكومة تخصص حوالي 3 مليارات دولار سنوياً للتنمية الاقتصادية والمساعدات المالية، 4% منها فقط يصل إلى تلك الفئات المستهدفة، وفقاً لتقرير المنظمة نفسها. يقول الطراد: “الاعتقاد السائد بأن المهاجر في فرنسا يعيش في الجنة بعيد كل البعد عن الصحة”. كما يستشهد بإحصائيات دقيقة، فيوضح بأن هذه الأسر أفقر ب 3 أضعاف متوسط الدخل الفرنسي، بينما يرتفع معدل البطالة إلى حوالي 3 أضعاف، أي ما نسبته 26 %. مع ذلك، فإن هذه المجتمعات تنتج شركات جديدة بمعدل يبلغ 3 أضعاف المتوسط الوطني. يضيف: “المشكلة أن هذه الشركات تفشل أسرع بمقدار 3 أضعاف أيضاً “. ويبقى أن ننتظر حجم التغيير الذي يمكن ل(Agence France Entrepreneur) إحداثه مستقبلاً.
وللتوضيح: يساعد موقعها الإلكتروني مقدم الطلب على التواصل مع واحد من 3 بنوك، للحصول على قرض إلى جانب خطة الأعمال. كما تعرض بعض الأسئلة، مثل: “هل أجريت بحثاً في السوق؟” و”ما هو الوضع القانوني للمشروع الخاص بك؟” وفي صفحات أخرى، هناك عدد كبير من الأوراق الإدارية المتاحة للتحميل، لتسجيل وإدارة الشركة. بالإضافة إلى مجموعة من البنوك الفرنسية، والشريك المؤسسي الرئيس والوحيد حتى الآن: (Microsoft) يقول الطراد: “من الواضح أننا لا نستطيع معالجة هذه المشكلة وحدنا”. فضلاً عن كونه لا يعرف إذا كانت الحكومة اليمينية ستؤثر على عمل الوكالة في مرحلة ما. لكنه بعيدًا عن أي عوائق محتملة، يكرس يومين للمبادرة أسبوعياً، ويشرف على فريق مكون من 35 شخصاً، يعمل على استضافة الاجتماعات، وتقديم دورات حول ريادة الأعمال للطلبة وأصحاب الأعمال والمشاريع الناشئة.
في حين يؤدي الطراد دوره تجاه البلد الذي يدعوه بالوطن، إذ تلاشت صلته مع سوريا على مر سنين خلت، ولم يزرها منذ عقود. يقول: “ما فعلته في فرنسا، لم أستطع فعله لبلدي” وكان هذا قبل اندلاع الصراع الذي دمر سوريا قبل نحو 6 سنوات.
وفي العام الماضي، بعد اطلاعه على تقرير حول عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين المحاصرين على الحدود الأردنية، تبرع إلى منظمة الإغاثة الإنسانية “أطباء بلا حدود” لمساعدتهم على نحو عاجل. وعما إذا توقف القتال في سوريا، فهو لم يقرر بعد حول كيفية مشاركته في إعادة الإعمار التي يقدر بأنها ستستغرق وقتاً طويلاً لا يقل عن 25 عاماً، وبكلفة مئات المليارات من الدولارات. لكنه يتساءل: “من الذي سيمولها؟ أما عن نفسي، فأجيب بنعم، يمكنني المساهمة”.
وحتى ذلك الحين، مع استمرار تدفق اللاجئين، فهو غير متأكد من المستقبل الذي ينتظرهم في أوروبا،
إذ تردد قليلاً في الإجابة عن السؤال حول إمكانية نجاح مهاجر سوري في فرنسا اليوم، ثم قال: “من الصعب الإجابة، لكن نعم من حيث المبدأ، يمكنه النجاح ما دام هناك فرص دائماً”.
لقد ولد حسب اعتقاده في عام 1948 ، حينها اعتدى والده، وهو زعيم قبلي، على والدته. ثم توفي شقيقه الوحيد من سوء معاملة الأب، وتوفيت والدته المريضة عندما كان طفلاً، وتبرأمنه أبوه. فلم يبقَ له من عائلته سوى جدته التي منعته من الذهاب إلى المدرسة، لكي يرعى الأغنام.
ثم عاش طفولته الصعبة بتنقل دائم أينما ارتحلت القبيلة في كل موسم. وأخيراً، تبناه رجل تربطه به قرابة بعيدة، فانتقل للعيش معه بالقرب من الرقة، حيث تلقى دروسه الأولى في إحدى مدارسها. وهناك اجتاز الامتحانات الوطنية، وحاز على المركز الأول، مما استحق بذلك منحة حكومية للدراسة في الخارج. يقول: “كنت محظوظاً”. وبالرغم من جهله حينها باللغة الفرنسية، إلا أنه اختار الدراسة في فرنسا.
في مونبلييه، كان السكان المحليون مرتابين من هذا الأجنبي. فعندما طُرد المستعمرون الفرنسيون من الجزائر خلال الحرب، لم يكن معظم الفرنسيين في جنوب البلاد يميزون بين الجزائريين والعرب. يقول: “حاولت أن أشرح أنني لست جزائرياً، لكنهم كانوا يجيبون بأن العرب جزائريون”. وفي ذلك الحين، احتاج إلى أكثر من عام، ليتمكن من إجراء محادثات ذات مغزى، غير الاستفسار عن مسار الحافلة أو طلب رغيف خبز فرنسي. يضيف: “إنهم يتوقعون منك أن تحب ثقافتهم. لكنك عاجز عن محبة شيء لا تفهمه”. كما كانت الوظائف الوحيدة المتاحة للمهاجرين العرب منخفضة الأجور، مثل تنظيف الشوارع أو حراسة خطوط تجميع المصانع، أي الوظائف التي يرفض معظم المواطنين العمل فيها. وخلال فترة العطلة الصيفية للكلية، عمل الطراد في قطف كروم العنب في مزارع حول مونبلييه مقابل 15 دولار يومياً.
ليلتحق بعد الانتهاء من دراسته الجامعية، ببرنامج الدكتوراه في علوم الحاسوب بباريس. ولأنه استطاع العمل بدوام جزئي أثناء الدراسة، حصل على وظيفة مهندس مبتدئ في (La Compagnie
Générale d›) . ثم غادرها بعد عام واحد للحصول على وظيفة مماثلة في شركة المقاولات الخاصة بالدفاع والفضاء (Thomson) وأصبح مؤهلاً للحصول على الجنسية. كما التقى بامرأة فرنسية أصبحت زوجته فيما بعد. في عام 1980 ، بعد فترة وجيزة من حصوله على شهادة الدكتوراه، عثر على إعلان توظيف في ( Le Monde) لحكومة أبوظبي، وأثار اهتمامه احتمال العودة إلى الشرق الأوسط. فعمل في قسم تكنولوجيا المعلومات في شركة (Abu Dhabi National Oil Company).
حينئذ لم تكن الإمارة متألقة كما هي اليوم، فكان فيها عدد قليل من المرافق والمطاعم ودور السينما التي تعرض أفلام بوليوود فقط. وسرعان ما أدرك كيف غيره نمط الحياة الفرنسي، ودفعه إلى الإسراع في إنهاء عقده عام 1984 ، سيما أن زوجته أرادت لابنهما الدراسة في فرنسا.
وعندما عاد إلى باريس، أصبح رائد أعمال وأسس شركة ناشئة؛ إذ بمساعدة ريتشارد ألكوك- زميل بريطاني التقاه في أبوظبي، وزميلي دراسة آخرين، صمم جهاز حاسوب يزن حوالي 60 رطلاً، في العام الذي أصدرت فيه (Apple) أول جهاز ماكنتوش. لكن مع عدم توافر رأس المال المطلوب لمواصلة عمليات التطوير، بيعت الشركة وحصل الطراد على نحو 600 ألف دولار.
وفي عام 1985 ، بينما كان يقضي إجازته في قرية فلورنساك حيث يقيم أقارب زوجته، أخبره أحد الجيران عن مصنع سقالات مثقل بالديون ومعروض للبيع. لم يكن يعرف معنى الكلمة الفرنسية التي فيد معنى “السقالات”، لكنه اهتم بذلك، فشارك ألكوك مرة أخرى، واشتريا الشركة مقابل مبلغ زهيد جدًا. ومع خفض التكاليف وإعادة تنظيم العمليات، استطاع الطراد إنعاش الشركة خلال عام واحد فقط. لكن طالما تلقى إشارات تذكره بأن المعوقات تحتشد ضده لكونه عربياً. يقول: “يجب أن تثبت جدارتك أكثر من رجال الأعمال العاديين. وبصراحة، لا ينجح العرب بسهولة في فرنسا”.
حتى إنه عندما أراد فتح حساب مصرفي للشركة ورفضته البنوك، شك في أن لاسمه علاقة بذلك. وبعد سنوات قليلة، حين بدأ الاقتصاد الفرنسي يتعافى من الركود، رفضت بعض البنوك إعطاءه قرضاً بالرغم من أن شركته كانت تحقق الأرباح.
وفي نهاية كل سنة مالية، كان (Banque de France) يطلب من الشركات تقديم نسخة من ميزانيتها العمومية المدققة. فبدا للطراد أن البنك ينظر مطولاً في بياناته المالية. مما أشعره بنوع من التمييز.
يقول: “لاحظت أنهم يمحصونها أكثر من أي شركة أخرى أحياناً”. مع ذلك، حقق تقدماً، خاصة من خلال الاستحواذ على منافسين أصغر والتوسع خارج فرنسا إلى إيطاليا وإسبانيا. ففي عام 2003 ، اشترى المنافسة الألمانية (Plettac) وأتم مؤخراً صفقة الاستحواذ على شركة الخدمات الصناعية الهولندية (Hertel Group) وشركة تعهدات النفط والغاز الفرنسية (Prezioso-Linjebygg). كما وظفت الشركة استراتيجيين في العلاقات العامة، لتعزيز الوعي بالعلامة التجارية. يقول ألكوك، الذي تقاعد في عام 2008 ، وباع أسهمه للطراد: “أصبح محمد معروفاً بشخصيته وبوصفه رائد أعمال مرموق”. وفي عام 2015 ، فاز الطراد بجائزة رواد الأعمال العالمية من (Ernst & Young) ووجهت إليه دعوة من الرئيس السابق باراك اوباما، للحديث في القمة السياسية في نيروبي بكينيا. فجذب له كلا الحدثين تغطية إعلامية واسعة في فرنسا، وتلقى مكالمة هاتفية من أولاند الذي دعاه إلى قصر الإليزيه.
قبل أكثر من 20 عاماً، نشر الطراد رواية (Badawi) وهي أشبه بسيرة ذاتية عن طفولته في سوريا ورحلة كفاحه في فرنسا. وهو يكتب حالياً روايته ال 4 حول موضوع “الهوية”، ويأمل نشرها في العام المقبل. (فوربس الشرق الأوسط)
اقرأ أيضاً:
تعرف على أقوى قادة الأعمال الهنود من الجيل القادم لعام 2017