يحدث في لبنان... رجال أعمال يتحوّلون إلى سياسيّين

تاريخ النشر: 25 أكتوبر 2012 - 10:23 GMT
يحلّ لبنان في المرتبة 142 بين 144 لناحية «ثقة الشعب بالسياسيين»
يحلّ لبنان في المرتبة 142 بين 144 لناحية «ثقة الشعب بالسياسيين»

عندما تُسأل الهيئات الاقتصادية عن هواجسها تُجيب: أبعدوا عنّي شر السياسة. لكن في ظلّ الأزمة التي ضربت لبنان أخيراً، انغمست يداها حتّى الكوع في شرور التسييس بعيداً عن هموم الإنتاجية. فما السرّ يا ترى؟

معظمهم كان مرتبطاً بمواعيد. غادروا عند الساعة الثامنة مساءً منزل رئيس غرفة بيروت وجبل لبنان، محمد شقير. بقي أربع شخصيات فقط. سهُل على المضيف في هذه اللحظة تحديد اتجاه البيان الذي سيصدر عن هذا الاجتماع. أراده سياسياً بالدرجة الأولى، وهكذا كان: كُتب البيان بخط اليد وأُرسل إلى وسائل الإعلام، وفي اليوم التالي صُدم الجميع، من المعنيين مباشرة ومن المراقبين، بموقف الهيئات الاقتصادية الداعي إلى إسقاط حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. كان ذلك يوم السبت الماضي في حمأة الغضب _ الشعبي طبعاً، لكن السياسي أيضاً _ من اغتيال رئيس فرع المعلومات، اللواء وسام الحسن. وما يكشفه المتابعون والمنخرطون في عمل الهيئات يوضح مستوى التشرذم الذي تعيشه هذه الطبقة الاقتصاديّة التي يبدو أنّ هناك تياراً واضحاً فيها يُريد تسييسها.

فقبل حلول الثامنة، توصّل القوم إلى أن هناك تهوّراً في إقحام الهيئات بما تُمثّله من مصالح اقتصادية في معترك السياسة على النحو المطروح، وخصوصاً أنّ دعوة هؤلاء طالما كانت ضرورة إبعاد كأس السياسة عن الاقتصاد لكي تزدهر البلاد وتزيد هوامش الأرباح.

وأحد أبرز الأمثلة على هذا الوضع ما حدث في عام 2005 عندما اغتيل الرئيس رفيق الحريري. «حينها عمدت الهيئات إلى اتخاذ موقف فيه حكمة واضحة، إذ زار المصرفيون والتجار والصناعيون القصر الجمهوري للتخفيف من الاحتقان الذي كان موجوداً»، يقول أحد رجال الأعمال الكبار المطّلع على الحركة داخل الهيئة. أمّا ما حدث بالتوازي مع إقفال الطرقات وترويع المواطنين بالسلاح، وصولاً إلى محاولة احتلال السرايا الحكومية، فهو مخالف تماماً للمنطق ولما كان ينتظره مجتمع الأعمال من نخبته. ولكن هناك أكثر من مبرّر لهذا التحوّل الشاذ.

الحق يُقال إنّ معظم الفاعلين في جسم الهيئات الاقتصادية _ الذي يضم 16 عضواً من مختلف القطاعات _ أراد موقفاً اقتصادياً تحذيرياً، لا هجوماًسياسياً، في الوقت العصيب الذي تمرّ به البلاد. ولكن بعدما غادر العدد الأكبر، حُسم الموقف خلافاً لرأي الأكثرية.

ومما لا شك فيه أنّ مواقف مثيرة فعلاً تبلورت خلال اللقاء. فقد بيّن رئيس الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز، شارل عربيد، موقفاً متذبذباً. شدّد في البداية على أنّ المواجهة بالسياسة غير ممكنة نظراً إلى أنّ «المجتمع الدولي كله يدعم الحكومة الحالية... فكيف نواجه؟». غير أنّ محمد شقير _ ذا الهوى السياسي المعروف _ بقي مصراً على فكرة الانخراط السياسي، فعاد عربيد _ الذي يُتداول أنّه مرشّح رئيس الجمهورية لرئاسة المجلس الاقتصادي الاجتماعي _ ووافقه على رأيه!

البعض شعر بأنّ المغامرة السياسية قد تؤذي حظوظه الانتخابية، منهم رئيس جمعية تجار بيروت، نقولا شماس _ وهو مرشّح للنيابة أو للتوزير. أمّا رئيس جمعية الصناعيين، نعمة افرام _ وهو أيضاً مرشّح للنيابة _ فقد كان غائباً بداعي السفر.

اللافت هو أن رئيس الهيئات، عدنان القصّار، كان غائباً خلال اللقاء، مع العلم بأنّه ظلّ حتّى الفترة الأخيرة «يُبقي الجمر تحت الرماد ويحافظ على حالة الهدوء النسبي في ما خصّ انخراط رجال الأعمال هؤلاء في معمعة السياسة» يُتابع رجل الأعمال نفسه.
ومع عودة المصرفي المخضرم، أصدرت الهيئات بياناً جديداً طالبت فيه «بتوفير الحدّ الأدنى من الاستقرار الأمني لأنه متلازم مع الاستقرار الاقتصادي؛ اعتماد خطاب سياسي معتدل...».  ولكن، رغم هذا البيان التوضيحي _ التصحيحي، تبقى المخاوف قائمة من تحوّل انخراط الهيئات في السياسة إلى عادة تظهر خلال الانعطافات الحساسة التي تمر بها البلاد بين الاستحقاق والآخر.

ويذهب المتخوّفون من هذا النمط إلى أنّه ربما حان الوقت لكي يُضخّ دم جديد في شرايين الهيئات لاتخاذ المواقف الواضحة بما يخصّ دورها. «ربماالآن هو الوقت الأكثر ملاءمة لكي تتحوّل الهيئات إلى مؤسّسة قائمة بنظام داخلي يقوم على الانتخابات، لا على التعيين، وحتمية أن تكون رئاستها مداورة لكي لا تتحوّل إلى مركز ثابت يعكس هوىً سياسياً معيناً كما هي الحال اليوم».

ويُشير هؤلاء إلى أنّه إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، ربما يكون هناك توجّه نحو إنشاء هيئات موازية. ولا يعود الأمر فقط إلى حسابات السياسة، بل إلى مشاكل هيكلية. فعلى سبيل المثال، ليس جميع التجار ممثلين في جمعية تجار بيروت، كذلك فإنّ تمثيل الغرف لا ينضح بالعدل على الصعيد المناطقي وعلى صعيد الحجم، فضلاً عن التململ الواضح من جانب الصناعيّين حول حصريّة الرئاسة.

وربّما تصل الهيئات إلى وقت تجد فيه نفسها «مثل الاتحاد العمالي العام الغائب عن سماع حقوق العمال، وفي مواجهتها يكون جسم اقتصادي آخر مثل هيئة التنسيق النقابيّة!».

تأتي هذه المقارنة من وجود تيار واضح في أروقة الهيئات يشذّ بها عن مهمّتها الأساسيّة باتجاه الدور السياسي. هذا التيار تقضي مصلحته في بعض الأحيان بتناسي مثلاً أنّه وفقاً لمؤشّر التنافسية العالمية، يحلّ لبنان في المرتبة 142 بين 144 لناحية «ثقة الشعب بالسياسيين». فعوضاً عن النأي بالنفس عن السياسة، ينخرط في لعبة الضغط باتجاه استبدال طقم سياسي بآخر!

الاشتراك

اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن