لطالما كانت عمليات البيع تركّز دوماً على الشاري أكثر من تركيزها على البائع. وبالتالي يتعيّن على أي نموذج فعّال للمبيعات أن يتكيّف مع آليات الشراء الآخذة بالتغيّر، وليس تجاهلها أو مقاومتها.
وهذا يُعتبر تحوّلاً كبيراً بالنسبة للشركات التي لازالت أدواتها في مجال التسويق، وتدريب فريق المبيعات، وعملياتها عموماً تقوم تستند إلى افتراضات عفا عليها الزمن بخصوص الآليات المتّبعة في الشراء.
فطوال قرن من الزمن، كانت عملية الشراء توصف بأنها تهدف إلى نقل الزبون المحتمل من حالة الإدراك أو الانتباه (Awareness) إلى الاهتمام (Interest) ثمّ الرغبة (Desire) وأخيراً الفعل (Action)، وهو النموذج الرباعي الذي يرمز إليه اختصاراً باللغة الإنكليزية بكلمة (AIDA) نسبة إلى الأحرف الأربعة الأولى من هذه الكلمات الأربع.
ويُعتبر هذا النموذج الرباعي وتنويعاته المختلفة الأساس المعتمد للمبيعات في العديد من الشركات التي تمارس النشاط التجاري مع شركات أخرى (يُرمز إليها إليه اختصاراً باللغة الإنكليزية بكلمة (B2B)). فعملية البيع النموذجية المعتادة لدى هذا النوع من الشركات تبدأ بتلقي إشارة من فريق التسويق إلى وجود “زبون مشتبه به” يمكن بعد تأهيله أن يصبح “زبوناً محتملاً”، وبعد ذلك يمكن أن يصبح زبوناً فعلياً عبر خطوات محسوبة ومدروسة بعناية.
وفي كلّ خطوة من هذه الخطوات، يُنتظر من موظفي المبيعات إنجاز سلسلة من المهام، تجري عادة وفق تسلسل معيّن، من أجل إتمام الصفقة في نهاية المطاف. وهي عملية تجري من الداخل إلى الخارج حيث أن أنظمة إدارة العلاقة مع الزبائن (CRM systems) حاضرة لكي توفّر البيانات بخصوص التقدّم المحرز (أو غير المحرز) في إنجاز سلسلة الخطوات المطلوب اتّباعها في الشركة بحسب نموذج المبيعات المُعتمد فيها.
لكنّ الأبحاث التي أجراها غارتنر تشير إلى واقع حالي مغاير تماماً في مجال الشراء. فعوضاً عن المضي بشكل متسلسل وبحسب الترتيب المذكور أعلاه، فإن المشترين يسيرون فعلياً على أربعة مسارات متوازية ليتّخذوا قراراً بخصوص الشراء.
دعونا نراجع هذا الأنشطة واحداً تلو الآخر:
الاستكشاف: هنا، يحدّد المشترون حاجة أو فرصة ما، ويبدأون في البحث عن طرق لتلبيتها أو التعامل معها. ويجري ذلك عادة من خلال التواصل مع المورّدين، ومن خلال البحث الذاتي عن المعلومات على شبكة الانترنت.
التقويم: يدرس المشترون وبشكل متأنٍ الخيارات التي توصّلوا إليها أثناء عمليات الاستكشاف، وهنا أيضاً يعتمدون وبشكل مكثّف على أبحاثهم الذاتية وعلى التواصل مع أقرانهم، فضلاً عن التواصل مع مندوبي المبيعات لدى المورّدين.
التفاعل: يُجري المشترون المزيد من الاتصالات مع المورّدين (أو يقبلون مقترحات من المورّدين) للحصول على المساعدة من أجل المضي قدماً نحو اتخاذ قرار الشراء.
التجريب: يلجأ المشترون إلى استعمال أحد الحلول، على سبيل التجربة أو للتأكّد من صلاحية هذا الحل المقترح، وتكوين رأي بخصوص قيمته بناءً على ذلك الاستعمال.
إذا ما أخذنا هذه التغيّرات بحسباننا، فإن فهم التموضع الحالي للزبائن، وكيف نتفاعل معهم بالشكل المناسب في كلّ مسار من هذه المسارات الأربعة، يُعتبر الآن أمراً أساسياً للغاية من أجل ضمان فعالية المبيعات.
وفيما يلي بعض النصائح والآراء التي ستساعدكم في مواكبة هذه التحوّلات والتغيّرات الحاصلة.
فريق المبيعات بات اليوم أهمّ من أي وقت مضى. بغضّ النظر عن المسار الذي يأخذه الزبائن، أو الترتيب الذي يأخذون فيه هذه المسارات، فإنهم يريدون التعامل مع أناس يمكنهم أن يساعدوهم في المضي قدماً نحو اتخاذ قرار الشراء، وأن يدافعوا عن مصالحهم أمام المورّد، وأن يساعدوهم في إنجاز صفقة تكون لصالحهم كزبائن.
في الحقيقة، يقول المشترون في الشركات التي تمارس النشاط التجاري مع شركات أخرى، بأن هذا التواصل المباشر مع المورّدين، مقارنة مع المصادر الأخرى للمعلومات، هو أكثر العوامل تأثيراً في عملية اتخاذ القرار لديهم.
وفي المقابل، تُعتبر شبكات التواصل الاجتماعي هي المصدر الأقل تأثيراً في قرارهم. لذلك لا تصدّق هذه الفورة الحماسية الحاصلة، واعلم بأن مندوبي المبيعات لم يُستبدلوا بالعالم الرقمي بعد، كما أن تقديم الحلول المناسبة المصمّمة بحسب حاجة الزبون يظلّ هو العنصر الأساسي في معظم سيناريوهات الشراء المتّبعة في الشركات التي تشتري حاجاتها من شركات أخرى.
أحد الأسباب التي تجعل فريق المبيعات يحافظ على أهميته بالنسبة للزبائن من هذا النوع من الشركات هو أن معظم المنتجات والخدمات التي تباع إلى المؤسسات تكون عبارة عن مكوّنات تندرج ضمن نظام استعمالات أوسع لدى الشركة الشارية، وبالتالي فإن قيمة الزبون تكمن في نهاية المطاف في ذلك الاستعمال، وليس في المنتج الواحد فقط.
وثمّة أمر آخر يُضاف هنا. فالمشترون ضمن الشركات يجب أن يبرّروا قرارهم الخاص بالشراء لأشخاص آخرين في الشركة، وخاصّة أن النفقات الرأسمالية باتت تصرف بحرّية أقل في العديد من القطاعات منذ الأزمة المالية التي حصلت عام 2008. وسيكون شخصاً ساذجاً أو يقضي وقتاً أطول من اللزوم على هاتفه الذكي من يعتقد بأن إجراء الحسابات الاقتصادية، وتحديد الحلول المناسبة واستعمالات المنتج، وإدارة المخاطر، وإجراء جولة للاطلاع على سياسية المؤسسة التي ينتمي إليها المشتري، هي أمور يمكن أن تتمّ عن طريق الإنترنت بشكل عام في معظم مسارات البيع المذكورة أعلاه دون وجود فريق مبيعات واسع الاطلاع وذكي يقدّم المساعدة.
كما توصّل البحث أيضاً إلى أن المشترين، وفي جميع مسارات الشراء الأربعة المذكورة أعلاه، يشدّدون كثيراً على أن التواصل والتعامل مع المورّدين، كما في حالة العروض الإيضاحية التقنية، وعروض المبيعات المفصّلة بحسب الاحتياجات المحدّدة للشركة، يجب أن تركّز على احتياجات المشتري. ومن بين أكثر أنواع التواصل تقديراً لدى المشتري هي الاتصالات التي يتلقاها من مندوبي المبيعات استجابة لتسجيله للمشاركة في حدث معيّن أو في ندوة تقام عبر شبكة الانترنت. وهذا يعني بأن المهارات الخاصّة بتسويق حل مناسب للزبون وكذلك مهارات إدارة العلاقة مع الزبائن لازالت من المهارات الهامّة والمطلوبة.
أخيراً، وعلى الرغم من المشترين يلجؤون وبكل تأكيد إلى إجراء البحث عن طريق الانترنت، إلا أن عملية البحث هذه هي بنظرهم عملية مكمّلة للتواصل مع مندوبي المبيعات والمسؤولين الآخرين لدى الشركات المورّدة لهم، وليست بديلاً عنها. وإذا كان هناك من فائدة تحققت من إمكانية الحصول على المعلومات عن طريق الإنترنت، فهي أنها قد “زادت” حجم الوعي والإدراك بأن البدائل المناسبة والممارسات الفضلى بخصوص استعمالات المنتجات وشرط الخدمات غالباً ما تكون موجودة خارج الشركة. وبدوره، فإن هذا الأمر يدفع الشركات الراغبة في الشراء إلى الميل نحو البحث عن المعلومات لدى المورّدين الذين يعملون مع الشركات في مناطق جغرافية مختلفة أو يغطّون شرائح مختلفة، والذين يمكن أن يستفيدوا من تلك المعرفة للمساعدة في تصميم وتنفيذ حلول تناسب احتياجات هذه الشركة بعينها.
الشراء هو عملية مستمرّة وديناميكية. إنّ الحديث الزائف حول عدم الحاجة إلى وسطاء كمندوبي المبيعات يغطّي على القضايا الحقيقية التي تواجه الشركات. فمندوبو المبيعات ليسوا في طور الاختفاء، وإنما عمليات الشراء، وبالتالي مهام المبيعات، هي التي في طور التغيّر.
على سبيل المثال، تشير الأبحاث إلى أن التزكية التي يتلقاها المشترون من زبائن آخرين تأتي في المرتبة الثانية من حيث التأثير على قرارهم بعد التواصل المباشر مع مندوبي المبيعات، وتتمتّع بذات المقدار من الأهمية تقريباً، ناهيك عن أن طبيعة عملية التزكية قد تغيّرت هي الأخرى. ففي الماضي، كان المشتري مثلاً يطلب أسماء أشخاص أو زبائن آخرين يزكّون له المنتج أو الخدمة، وكان البائع يقترح عليه عدداً من الزبائن الراضين عن المنتج أو الخدمة. أمّا اليوم، فقد بات الوضع مختلفاً مع انتشار الانترنت، حيث يمكن للزبائن التواصل مع بعضهم البعض مباشرة والحصول على آراء فورية دون أي رقابة أو تعديل، من خلال تصفّح مواقع مثل (bazaarvoice.com) و(powerreviews.com)، كما أنهم قادرون على الوصول إلى آلاف الأشخاص في الشركات الأخرى والذين يمكنهم طرح آرائهم وخياراتهم عبر مواقع مجتمعية مثل (scn.sap.com/welcome)، و(www.marketo.com/marketing-nation).
هناك عناصر أخرى تلعب دوراً هامّاً في التأثير على قرار الشراء، مثل المناسبات والأحداث والمعارض، وما يسمّى “الأوراق البيضاء” (وهي نوع من الوثائق التسويقية التعريفية بالمنتجات والخدمات) والموقع الإلكتروني للبائع – وهذه أنشطة تُعتبر عادة جزءاً من مجال التسويق، وليس المبيعات. وهذا الأمر يشكّل ضغطاً على العلاقة التي تعتبر مشحونة أصلاً بين قسمي المبيعات والتسويق، ويستدعي تحسين العلاقة بين هاتين الوظيفتين اللتين يتزايد اعتمادهما على بعضهما البعض، رغم الاختلاف في الآراء بينهما وفي إجراءاتهما. وقد تبيّن بأن العلاقة بين التسويق والمبيعات تحتلّ موقع الصدارة على جدول المخاوف، في استطلاع لآراء المدراء التنفيذيين في الشركات التي تمارس النشاط التجاري مع شركات أخرى.
وبشكل أعمّ، من المهم أن نعترف بأن مواقع الانترنت، والمدوّنات، وغير ذلك من وسائل الإعلام الرقمية قد جعلت المؤسسات المتخصّصة بالبيع والتوريد أكثر بروزاً وشفافية أمام المشترين الأمر، ممّا قوّض النموذج القديم القائم على العمل من الداخل إلى الخارج. فالزبائن المحتملون باتوا على تماس مباشر مع علامتك التجارية ومع شركتك في العديد من النقاط المختلفة (عبر الانترنت، والمواد التسويقية الترويجية، وهكذا دواليك)، وفي الوقت الذي يشاؤون. وكلّ حالة من حالات التماس هذه تترك أثرها على مهام فريق المبيعات. كما أنّ المشترين ينظرون بعين التقدير إلى عملية التواصل مع أشخاص آخرين في شركتك إضافة إلى مندوب المبيعات (مثل المختصّين بشؤون المنتج، أو الخبراء الفنيين، أو الموظفين المسؤولين عن الخدمات الاحترافية، أو موظفي التسليم، أو موظفي ما قبل البيع أو ما بعد البيع). وفي مسارات الشراء الأربعة المذكورة أعلاه، يتوقع المشتري من مندوب المبيعات أن ينظّم عمليات التواصل هذه ويرتّبها بطريقة هادفة، وبالتالي فإنّ تنسيق هذا النوع من عمليات التواصل والتفاعل بطريقة كفوءة يجب أن ينعكس ضمن استراتيجية فعّالة للدخول إلى السوق بروح القرن الحادي والعشرين.
أخيراً، إذا أخذت بعين الاعتبار المسارات التي تلجأ إليها الشركات الآن عند الشراء، وتحديداً السلوكيات التي يعتبر المشترون وجودها لدى المورّدين أمراً هاماً، فإنك تجد أن هناك انفصالاً كبيراً واضحاً بين الاثنين. فعلى الرغم من التقدّم الهائل الحاصل في التكنولوجيا خلال العقدين الماضيين، إلا أنّ معظم نماذج المبيعات والممارسات المطبّقة تعتبر نتاج سنوات من القرارات المتراكمة التي جاءت كردّ فعل ارتجالي، والتي اتّخذها غالباً مدراء مختلفون يسعون إلى تحقيق أهداف مختلفة. وهذا هو السبب الذي يجعل العديد من الشركات التي تتبنّى نماذج معيّنة للمبيعات في عملها مع الشركات الأخرى، غير قادرة على التعامل مع الواقع الجديد الآن الذي بات يقول بأن عملية الشراء هي عملية مستمرّة ومتواصلة – أي أنها تشبه الفيلم السينمائي المستمر، وليس اللقطة الثابتة أو الصورة الذاتية (السيلفي).
الاختيارات غالباً ما تكون زائفة. على الرغم ممّا تسمعه غالباً، فإنه ليس هناك من تكتيك وحيد – مثل اتباع منهجية معيّنة في البيع، أو “تحدّي” الزبون، أو إجراء المزيد من عمليات التحليل لـ”البيانات الضخمة” – سيكون كافياً للتعامل مع الواقع الجديد. فتحقيق التناغم والتآلف بين البيع والشراء هو عملية ديناميكية، وليس صفقة تحصل بكبسة زر.
إذا ما نظرنا إلى المستقبل، فإننا نعتقد بأن العديد من المورّدين الذين يبيعون منتجاتهم إلى شركات أخرى سيحتاجون إلى إعادة تعديل عمليات البيع لديهم لتصبح أكثر فعالية وكفاءة في حالة كل مسار من مسارات الشراء الأربعة المذكورة أعلاه. ولا ينبغي لهؤلاء المورّدين أن يهدروا الكثير من الوقت والطاقة في السجال حول ما إذا كانوا يجب أن يتواجدوا على الانترنت “أو” أن يحضروا شخصياً، أو ما إذا كانوا يجب أن يتفاعلوا مع الزبائن عبر الانترنت “أو” عبر مندوبي المبيعات، أو بطريقة رقمية “أو” بشرية. فهم يجب أن يفعلوا الاثنين معاً، وأن يعتمدوا المزيج الصحيح منهما ضمن برامجهم الخاصّة بالدخول إلى السوق.
من المهمّ أيضاً بأن تمتلك كل مجموعة موجودة ضمن مؤسسة معيّنة، وتتعامل مع الزبائن، رؤية مشتركة حول طريقة هؤلاء الزبائن في الشراء، والأهم من ذلك، أن يكون لدى أفراد هذه المجموعة إحساس واضح باستراتيجية الشركة. كما أنّ مسؤولية القيادة تتمثّل في ضمان التواصل والتنسيق بين الوظائف المختلفة من أجل مواكبة هذا التغيّر الحاصل. والسؤال المطروح هنا هو: هل شركتك، وليس فريق مبيعاتك فقط، جاهزة للتعامل مع هذا الواقع الجديد لعملية الشراء؟
أخيراً، وإذا ما أردنا استعارة عبارات قالها ونستون تشرشل بتصرّف، فإننا لسنا أمام “نهاية المبيعات التي تحاول تسويق حلول إلى الزبون تناسب احتياجاته”، كما أنّنا لسنا أمام بداية النهاية.
وإنما ما يجب أن ينتهي فعلياً هو التعميمات السطحية بخصوص المبيعات والبيع، التي تظلّ أنشطة معقّدة ومتغيّرة وتعتمد على الأشخاص المعنيين في معظم أسواق الشركات تمارس النشاط التجاري مع الشركات الأخرى. وبما أنّك تحتلّ موقع القيادة، فإن فهمك للآلية التي تحكم عملية البيع فعلياً، والطريقة التي تحصل بها هذه العملية، هو نقطة البداية والانطلاق من أجل تحفيز البيع الفعّال، والنمو المربح، والتخصيص الأفضل للموارد في شركتك.
اقرأ أيضاً:
علموا أطفالكم قيمة المال بهذه الطرق !
حسابك المصرفي في خطر... احميه بـ 5 إجراءات
3 عادات مالية جيدة عليك معرفتها