امتدت آثار الفكر الاستشراقي إلى الحياة الاقتصادية للمسلمين في القرن العشرين حيث وقعت المجتمعات الإسلامية تحت تأثير نظامين اقتصاديين من النظم الاقتصادية الغربية المتناقضة وهما: النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي. وقد لعب الاستشراق الدور الرئيسي في إحداث هذا التأثير. وقد كان الدور الاستشراقي دورا مزدوجا حيث جمع بين الهجوم على النظام الاقتصادي الإسلامي ونقده، واتهامه بالعجز في حل المشاكل الاقتصادية للمجتمعات الإسلامية، وبين نقل النظريات الاقتصادية الغربية لكي تكون بديلا للنظام الاقتصادي الإسلامي.
وقد اهتم مستشرقو الغرب الرأسمالي بشرح الرأسمالية وتفسيرها لشعوب الشرق، وتصويرها في صورة النظام الاقتصادي النموذجي للعالم الإسلامي. وفي نفس الوقت سعى المستشرقون الشيوعيون إلى شرح النظرية الاقتصادية الشيوعية الاشتراكية، والعمل على نشرها في البلاد الإسلامية التي وقعت تحت النفوذ السياسي والاقتصادي للاتحاد السوفياتي قبل انهياره. بل إن الأمر لم يتوقف عند حد تقديم النظريتين، ولكن تعداه إلى إعادة تفسير التاريخ الاقتصادي الإسلامي من وجهة نظر الرأسمالية والشيوعية كنوع من التأصيل للنظريتين، وتقديمهما على أنهما لا يمثلان خروجا على النظام الاقتصادي الإسلامي.
وبداية نقول إن تدهور الاقتصاد الاسلامي في الماضي لم يكن سببه خللا أو ضعفا في النظام الاقتصادي الإسلامي، ولكنه يعود إلى الحرب الاقتصادية التي شنها الغرب على العالم الإسلامي الذي كان لموقعه الجغرافي فوائد اقتصادية عظيمة، حيث تحكم المسلمون في طرق التجارة القديمة وفي المسالك البرية والبحرية بين أوروبا وآسيا. كما تمكن من السيطرة على التجارة البحرية في المحيط الهندي، وأنشأ علاقات تجارية منتظمة مع الشعوب المجاورة، وتمكن من الاتصال المنتظم بهذه الشعوب وثقافتها، وتفوق عليها في تقديم الوسائل الاقتصادية والفنية وفي المدنية المادية بوجه عام. ويعترف المستشرق جب بأن التدهور الاقتصادي للعالم الإسلامي يعود إلى أسباب داخلية وخارجية، ويشرح الأسباب الخارجية بقوله «أما ثانية الضربات القاضية فقد أتت من أن أوروبا امتدت إلى أن العالم الإسلامي يمكن أن تؤخذ عليه السبل طبيعيا واقتصاديا في آن واحد إذا فتح الطريق البحري إلى غرب إفريقيا والهند. ولم تكن نتيجة هذا مقتصرة على نزف أكبر معين للرخاء الاقتصادي، ولكنه جعل العالم الإسلامي في عزلة.. وقُضي عليه بالكساد الاقتصادي وبكل ما يصحبه من الآثار في الحياة العقلية والأدبية». ثم يربط جب بين الهجوم الاقتصادي والسياسي فيقول «سار العالم المسيحي في الهجوم الاقتصادي بخطوات سريعة. فالشركات التجارية الأوروبية لم تقف بباعث من المنافسات الدولية عند احتكار حمل تجارة الدنيا القديمة فحيثما كانت السلطة السياسية المحلية تدعو إلى التدخل كانوا يحلون حكمهم المباشر محلها. وبذلك بدؤوا ينشرون سلطانهم السياسي شيئا فشيئا على بلاد إسلامية مختلفة.. ويشقون بالقوة منفذا في العالم الإسلامي لمنتجاتهم الخاصة منافسين مصنوعات البلاد المحلية». وهكذا سار التغلغل الاقتصادي مقارنا للنشاط السياسي وانتهى بتوطيد هولندا قدمها في جزر الهند الشرقية وإنجلترا قدمها في الهند على حساب الدول الإسلامية.
وتم الاستيلاء على السوق الشرقية لتصريف نتاج المصانع الأوروبية، وربط الحياة الاقتصادية للمسلمين بالحياة الاقتصادية لأوروبا مما أدى إلى إضعاف الاقتصاد الإسلامي وفقدانه لاستقلاله. وقد استمر هذا التدهور الاقتصادي للمسلمين منذ اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وحتى وقتنا الحالي. ونتج عنه التبعية الكاملة للغرب في المجال الاقتصادي. ومن مظاهر هذه التبعية تغلغل النظم الاقتصادية الأوروبية إلى أن تم نشر الفكر الاقتصادي الغربي في القرن العشرين في بلاد المسلمين من خلال فرض الرأسمالية والشيوعية على البلاد الإسلامية. وقد نتج عن هذا في التاريخ الاقتصادي الحديث والمعاصر للمسلمين ما يلي:
أ- ضياع الوحدة الاقتصادية للمسلمين. فقد أصبح العالم الإسلامي موزعا بين النظامين الرأسمالي والشيوعي، وأصبحت تجارتهم تابعة تبعية كاملة لأحد النظامين. وتم ربط الاقتصاد في المجتمعات الإسلامية بالاقتصاد الرأسمالي والشيوعي، وفقد المسلمون مكانتهم الاقتصادية العالمية وأصبحت بلادهم سوقا واسعة للمنتجات الصناعية والزراعية للعالم الغربي.
ب- أدت التبعية لنظامين اقتصاديين متناقضين إلى تفتيت وحدة العالم الإسلامي، فانقطعت العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلاد الإسلامية، وأصبحت كل مجموعة من هذه البلاد تابعة لبلدان النظام الاقتصادي الذي تتبعه، وانقسم المسلمون بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي.
ج - تعطيل المؤسسات الاقتصادية الإسلامية، ووقف تطورها ونموها لمصلحة المؤسسات الغربية واستبدال النظم الاقتصادية الإسلامية بنظم غربية خالصة.
د- نقل القيم الاقتصادية الغربية والمبادئ المتحكمة في نظام السوق الغربية، والقضاء على القيم الإسلامية التي تحكم في الاقتصاد الإسلامي.
هـ - عرقلة البرامج الاقتصادية الإسلامية والجهود التنموية للمجتمعات الإسلامية.