أكد كثيرٌ من الخبراء أن التطورات الحالية في أسعار الذهب لا تعكس واقع التراجع الاقتصادي الذي تشهده أهم مناطق العالم على الرغم من أن الذهب هو الملاذ الأكثر أماناً على الإطلاق لمَن يملكون رؤوس أموال يريدون استثمارها. وعلى الرغم من أزمة الديون السيادية الأوروبية وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، تراجع سعر الذهب 15 % تقريباً في العام الماضي، مقارنة بمستواه المسجل في العام السابق له، عندما تخطى سعر الأوقية 1900 دولار. أما الخيارات الأخرى الآمنة للمستثمرين، مثل سندات الخزانة الألمانية أو الفرنسية أو البلجيكية والأميركية، فتأثرت بالأحداث على عكس ما توقعه المحللون لها، إذ كان إقبال المستثمرين على شرائها مرتفعاً جداً.
وأرجع خبراء دوليون تراجع أسعار الذهب إلى تجمد الطلب على شرائه، فانخفض في الربع الثاني من العام 7 % مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. وتعكس هذه التطورات من ناحية، تسجيل قفزة في إقبال المصارف المركزية على شراء الذهب تجاوز الضعف، من 66 مليون طن إلى 157 مليوناً. وتُعتبر المصارف المركزية في روسيا وكازاخستان وتركيا وأوكرانيا، أبرز مَن يقود عمليات الشراء، حيث يتزايد اهتمامها برفع مخزون مستودعاتها من الذهب. ورصد محللون تراجع عمليات شراء الذهب في الهند أكثر من 38 %، أي أن المصرف المركزي الهندي اشترى نحو 180 طناً من الذهب فقط، فيما انخفضت عمليات شراء المصرف المركزي الصيني نحو 7.5 % بحيث لم تتجاوز الكميات 145 طناً. يُذكر أن الهند والصين تستأثران بنحو 45 في المائة من أسواق الذهب العالمية.
وأوضح المحللون أن طلبات شراء الذهب من الهند والصين، لعبت دوراً قيادياً في رفع الأسعار لتسجل الأونصة 300 دولار نهاية تسعينات القرن الماضي، وسرعان ما تخطت ستة أضعاف العام الماضي. غير أن الخبراء لا يرجعون انهيار طلب شراء الذهب في الصين، إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، بل إلى خيارات جديدة طُرحت على الطبقات الوسطى الصينية التي تعززت قدراتها الشرائية. وكانت الأسواق في الماضي شديدة التقلب، فيما كانت الأسعار باهظة، ما يعني أن الاستثمارات المتاحة أمام الطبقات الوسطى كانت محدودة. وبذلك كان الذهب المَخرج الوحيد أمامهم. وقال خبراء دوليون إن الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية أدت إلى انهيار قيمة الدولار، ولا تبدو مؤشرات في الأفق على أن العملة الأميركية ستستعيد عافيتها قريباً، مع احتمال أن تواجه المصير نفسه الذي عرفه الجنيه الاسترليني قبل 60 عاماً، فتأخذ مكانه عملة أخرى، وبالتالي يزداد معجل الاستثمار في الذهب وارتفاع أسعاره، مقابل تراجع الاستثمار في سندات الخزانة الدولارية. وأشار خبراء إلى أن الدولار بلغ حالياً أدنى مستوياته، حيث تراجعت قيمته إلى 1.3 فرنك سويسري، و1.49 يورو، وهو ما اعتبره المحللون مؤشراً على بداية انحدار العملة الأميركية. ويقول خبراء إن هناك عدة أسباب وراء تراجع الدولار وخسارته 10 % من قيمته مؤخراً، أولا: إن وزارة الخزانة الأميركية أجرت تخفيضاً كبيراً في أسعار الفائدة ليصبح هدف الاحتياطي الفيدرالي الوصول بسعر الفائدة إلى ما بين 0 و0.25 %، ما يعني أن الودائع بالدولار لم تعد تدر عائدات ذات قيمة.
ثانياً: إن الزيادة المعلن عنها في الضرائب لمواجهة العجز الكبير في ميزانية القطاع العام تدفع أصحاب رؤوس الأموال الأميركيين إلى نقل ودائعهم إلى الخارج. ثالثاً: خطر التضخّم الذي يخيّم على البلاد، والذي ينال من جاذبية الدولار على الساحة العالمية. وأشارت أبحات وخبراء اقتصاد إلى أن مسار أسعار الذهب في العام الجاري والسنوات القليلة المقبلة يتسم «بالنزعة الصعودية» بفعل عدة عوامل، منها زيادة الطلب بسبب النمو في الأسواق الناشئة، بطء تعافي الاقتصاد العالمي، ديون أوروبا، زيادة الطلب الصناعي، وأن الذهب لم يعد مجرد ملاذ آمن للبنوك المركزية في العالم والأفراد والشركات فحسب، بل بات بوليصة تأمين دولية.
ويعتقد المحللون أن أسعار الذهب العالمية لن تعود إلى مستوياتها بين عامي 2002 و2005 عند حدود 800 دولار للأونصة، رغم أن عمليات تعديل وتصحيح يمكن أن تطرأ على الأسعار مع تحسن النمو في الاقتصاد العالمي بدءاً من العام الجاري، لأسباب منها ارتفاع تكلفة استخراج أونصة الذهب، وطلب الصين التي أصبح مصرفها المركزي من أكبر المستهلكين للذهب، بل إن الصين اليوم هي أكبر منتج ومن أكبر المستوردين للذهب، إذ أن هناك نزعة صينية نحو تخزين الذهب كمدخرات وطنية. ويؤكد الخبراء أن الذهب سيظل ركيزة أساسية في هيكل الاقتصاد العالمي، ومحوراً لأداء المستثمرين من حول العالم. وأوضح خبراء أن العام الماضي شهد تحولاً عكسياً في علاقة البنوك المركزية في العالم بالذهب، حيث أصبح عديد من تلك البنوك يشتري بدلاً من البيع، مثل الهند، روسيا، الصين، وقالوا إن هذا تحول لم يحدث من 20 عاماً. ولفتوا إلى أن الطلب على الذهب يأتي من عدة مصادر مثل استثمار المؤسسات، حيث زاد في أغلب صناديق الاستثمار العالمية التي يبحث مديروها عما يحفظ قيمة ثروات هذه الصناديق بسبب هبوط أغلب العملات الرئيسة في العالم، ثم هبوط البورصات.