تفتتح منصورة عزالدين رحلتها من مصر إلى شنغهاي بقولها "أعرف أن هناك مدنا تقهر المخيلة، تستنزفها وتحولها إلى خرقة، ومدنا أخرى تثريها وتشحذها إلى درجة تحيلها إلى سيف مسنون".
بخلاف ذلك تبدو هذه اليوميات عن شخص شربل داغر وأشيائه المبكرة والمتأخرة، عن منبته ومشاربه ورحلته الشعرية والأدبية الممتدة على مدار أربعة عقود ونيف صفحات رائقة وطريفة وذكية معا لسيرة شخصية ثرية كتبت بلغة مكثفة وسلسلة، ونقلت لنا ببراعة صورا واقعية، صادقة، حارة، ليس فيها من التأليف بمقدار ما فيها من التذكر والاستعادة لما لا شبهة في حقيقيته. والأكثر من ذلك فإن المرء، بينما هو يسافر مع سطور هذه السيرة، يصيبه شعور بأن صاحبها يكتب عن نفسه كمن يكتب عن شخص آخر، فلا يوفر نفسه من تلك الإشارات الناقدة، ولا من الملاحظات الفكهة، التي لا تبقي لك شكا في "آدمية" الكاتب و"بشريته".
"الخروج من العائلة" كتابة عابرة للزمان والمكان معا، فهي تستعيد ببراعة لا يشوبها التكلف ولا يعوزها التلفيق، تروي وقائع وتقدم صورا قلمية لأزمنة النشأة، وجذور العائلة وفضائها القروي، فالانتماء المديني إلى الشاب في ظلال الحرب الأهلية، وثقافته العلمانية العابرة للصراع الطائفي، والنافرة منه لمعانقة الاختلاف الديني والمناطقي والهوياتي، في فضاء الصداقة والصديق، ورفاق الرحلة التي نذر الشاعر نفسه لها لا من أجل مواجهة القديم بالجديد، والانتقال بلبنان من مجتمع الطوائف إلى المجتمع الحديث، بل ومن أجل تغيير العالم، كل العالم ليصبح مسكنا للإنسان أكثر رحابة وجمالًا.
ويلاحظ القارئ من خلال سطور هذه اليوميات، كيف أن النزعة الإنسانية لدى صاحبها قد تبلورت عبر السفر والإقامة في فرنسا، جراء الانفتاح على هويات شتى لاسيما المغاربية، وكذلك من خلال رحلة العمل في الصحافة اللبنانية المهاجرة والدراسة الأكاديمية، ومغامرة الشاعر في العالم. وهو ما جعل رؤية الشاعر لذاته مرتبطة، على نحو لا فكاك منه بالآخر، وهو ما انعكس في كتاباته واهتماماته، التي تكشف هذه اليوميات عن بعض مساربها وأزقتها الخلفية.
هذه اليوميات تعكس، بأسلوبها وموضوعاتها، رؤية للذات والعالم والكتابة لا تحدها حدود جغرافية أو فكرية، ولا تأسرها تصورات أيديولوجية، وإنما تنفتح فيها الكتابة على وجود يجعل من الكاتب ذاتا قابلة لكل صورة، كما هي ذات الصوفي في انفتاحه على الوجود. فالشاعر في عرف صاحب هذه اليوميات، مقيما فيه ومترحلًا، هو ابن العالم.
الصبّار ليس مجرد نبات.. بل عالمًا من الأسرار المختزلة في لوحة رشا سليمان
"سهم أبولو".. كتاب جديد يكشف 5 تغييرات ضخمة في سلوكنا بعد وباء "كورونا"
مذكرات "ماذا علمتني الحياة؟" تأليف جلال أمين
تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي ليصلكم كل ما هو جديد: