"لعله الواقع.. أو جزء مني يتحرك هنا".. بهذه العبارة اعتاد الشاعر أشرف العناني توقيع نسخ ديوانه "صحراء احتياطية"، وكأنه يستبق الأحداث؛ فبقدر ما يحمل ديوانه من جمال فادح تكون جسامة الواقع الذي يحياه إنسانه هناك في الصحراء؛ "في انتظار أن ترمش الأباجورة/ أن يتكلم الليل من فمه/ خاطر يمشي في مكانه/ ربما تحت ساعة الحائط/ أو في تقاطع طريق جمعني بامرأةٍ/ تمنيتُ لو تكون هنا/ فيما روحي- كموزع بريد يائس- تفعل ما عليها/ توزع نفسها هنا وهناك".
وإذا كانت قسوة الجغرافيا مبررًا موضوعيًا لقسوة المناخ في الصحراء، فماذا عن مبرر خراب الواقع هنا؟ العناني الذي حمل صحراءه قادمًا من العريش إلي القاهرة، وآملاً في أن يخيب حدسه تجاه الواقع المزري للمدينة الكبيرة القاهرة، تمثّل له- يوم الثلاثاء الموافق 30 أبريل 2013- ذلك الواقع في الخراب الذي يعشش بين جدران أتيليه القاهرة (ملتقى الكتاب والفنانين)، وبما يتسق وإبداعه الشعري المتميز، قرر أن يجرح هذا الخراب؛ فألقى عددًا من نصوص ديوانه "صحراء احتياطية" في قاعة خاوية لم يكسر صمتها سوى صوته الشعري العميق، ونبضات لوحات الفنان التشكيلي إبراهيم شلبي التي جاءت تحت عنوان "لا أسمع.. لا أرى.. لا أتكلم".
وإذ عبر شلبي بتقنية فنية مميزة (الفوتوغرافيا المعالجة رقميًا) عن ضرورة كسر حالة اللامبالاة التي يعيشها الإنسان، متحديًا الخراب الذي يجتاح العالم، كان العناني يشاركه التحدي بشكل واقعي؛ مدركًا أن الخراب الأكثر فداحة هو ما نعيشه الآن، لدرجة أن معرض شلبي، رغم قيمته الفنية على المستويين المعرفي والجمالي، كان خاويًا على عروشه في قاعة راتب صديق بأتيليه القاهرة، وهي القاعة التي فوجئ الشاعر أشرف العناني بنقل ندوته الشعرية إليها دون حتى إخطاره بهذا القرار.
القصة كما يرويها العناني أن "الناقد الدكتور مدحت طه دعاني باسم إدارة الأتيليه لمناقشة ديواني "صحراء احتياطية"، وكان مقررًا للندوة أن تقام في القاعة الصيفية، لكنني فوجئت قبل دقائق من الموعد المقرر بنقل الندوة إلى قاعة راتب صديق، والمخزي أن منظمي الندوة اختفوا تماما دون حتى أن يبلغوني بقرار نقل الندوة، أو حيثيات نقلها".
جدير بالذكر أن "العناني" فضل منذ سنوات بعيدة العزوف عن المشاركة في مثل هذه الأنشطة لأنها- بحسب وصفه- كانت مجرد ديكور لدعم السلطة، لكنه بعد ثورة 25 يناير استحسن الاستجابة للمشاركة في الفعاليات الثقافية، واتخذ من الكشف عن الزيف أسلوبا له؛ إذ لا يحتمل الوضع الحالي أن يكون المثقفون ظلا لأي سلطة، ومن ثم قرر في مشاركاته عدم التطبيع مع الزائفين ولو بالسكوت عن خزعبلاتهم وترهاتهم التي يدعون أنها إبداع. وفي هذا الاطار استجاب "العناني" لدعوة وصفها بـ "الكريمة" من الدكتور مدحت طه لمناقشة ديوانه "صحراء احتياطية"، فقطع 600 كم قادمًا من رفح إلى القاهرة من أجل الوفاء بما وافق عليه في المكان والموعد المحددين. وبحسب وصفه جلس بين الحضور في القاعة المكشوفة (الصيفي) المخصصة للندوة، لكنه بعد مرور نحو نصف ساعة انتابه شعور ما، فخرج ليستطلع الأمر، فعرف أن القاعة غيّرت اتجاهها لتذهب للروائي محمد بركة- الصحفي بجريدة الأهرام- بينما لم يجد "العناني" أحدًا من المسئولين عن النشاط في الأتيليه ليستوضح منه الأمر؛ فقد "خلع" الدكتور مدحت طه، صاحب الدعوة، دون حتى أن يكلف نفسه عناء الاتصال بالشاعر، والمعني نفسه ينسحب على الناقد الدكتور صلاح السروي الذي كان سيتحدث عن الديوان؛ إذ انصرف قبل بداية الندوة، وفي حين لم يهتم أي من أعضاء مجلس إدارة "اتيلية الكتاب والفنانين" بالسؤال عما حدث، دقق "العناني" في لوحة الإعلانات ليقرأ ورقة مكتوبة بخط اليد تشير إلى أن نقل ندوته إلى قاعة راتب صديق، وهي القاعة المخصصة دائمًا لمعارض الفن التشكيلي.
وفي حين حرص الشاعر عادل جلال على استقبال "العناني" تقديرًا لصداقته وإبداعه، لم يجد الأخير أحدًا يُستدل عليه من مجلس إدارة الأتيليه أو المسئول عن النشاط، ورغم فداحة الموقف إلا أن أكثر ما شغله في تلك اللحظة هو موقفه تجاه الناقد صالح السيد القادم خصيصًا من محافظة السويس للمشاركة في الندوة.
الطريف أن أشرف العناني دخل القاعة فوجدها خاوية على عروشها، فضحك من هول المفارقة؛ إذ تتزين جدران القاعة بلوحات تدين الصمت والتراخي والأنامالية واللامبالاة، بينما يعشش الخراب في جسد الأتيلية الذي يحتضنها، وفي استجابة فورية قرر أن يجرح هذا الخراب بجمال صحرائه الاحتياطية، فجلس على المنصة وإلى جواره الناقد صالح السيد، بينما تطوع الشاعر عادل جلال بإدارة الندوة، مشيرًا إلى أن ما حدث مع "العناني" ليس فريدًا من نوعه في هذا المكان وهذا المناخ، ومؤكدًا على أن الموقف نفسه تكرر معه من قبل في ندوة للشاعرة فردوس عبد الرحمن، وهو ما دفعه للعزوف عن المشاركة في النشاط الأدبي بالأتيليه، في ظل التخبط الإداري الحاصل.
وليس بعيدًا عن الواقع أيضًا، استهل الناقد صالح السيد دراسته العميقة (صحراء احتياطية- عتبة النص ورؤيا العالم)، بمقولة الشاعر الفرنسي "رينيه شار" من أن "الشعر الحديث يعني بالكشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلي الكشف، إذ إنه كشف واستجلاء لما هو منفلت فيما وراء العالم أو مكبوت في اللاوعي، أو مقيم في الظل منزو عن الضوء، وحالة الكشف هذه تعبير عن إرادة معرفة تصبو نحو رؤيا العالم، واستكناه الوجود، واستبصار الجوهر الإنساني".
وقال "صالح" إن الشعر في إحدى إمكاناته واختياراته الكبرى مساءلة حيوية للوجود، وهو ما نجده في ديوان العناني، وأضاف أن "صحراء احتياطية" صيغة جد مختلفة للكتابة، تعكس وعيا وإدراكا مغايرين، يمثلان نزوحا نحو إعادة صياغة العالم أو إعادة إنتاج الحياة، مشيرٍا إلى أن طاقة الإدهاش التي يفيض بها العنوان تزج بالمتلقي دفعة واحدة في فضاء الشعر، فهو إذ يستنفر الخيال، يستفز كمون الروح، فتتخلق فعالية جمالية عميقة تبحث عن الإجابة أو تكرس للتساؤل.
المثير أن الندوة استمرت نحو ساعتين، ألقى خلالها "العناني" قصائده كما لو أن القاعة مكتظة بالجماهير، وكان حضوره، رغم الأسى، شفيفًا وعميقًا ومبهجًا؛ إذ ترك صوته يجرح خراب المدينة الكبرى، مصافحًا لوحات الفنان إبراهيم شلبي التي تؤذن في خراب الأتيليه؛ حيث "كل ليلة- تقريبا قبل أن تنام- تملأ الشباك البعيد بنصف جسدها الذي يوشك أن يختفي، وتمنّي نفسها بعبور رجل، أي رجل.. فقط ليلمحها وهي تمشط شعرها، فيرتبك المشط، وتتنهد هي مثل عمال المناجم، وهم يتخيلون الساعات الطويلة التي أهدروها في الظلام".