صدر حديثا عن دار مسكيلياني للنشر، رواية “عربة الأموات” للكاتب السوداني منصور الصويم، يتحدث فيها عن أصدقاء دراسة جمّعتهم الغربة مرّة ثانية بعد سنوات من الافتراق، لكن تصاب جميعها بالفشل والإحباط والمطاردة إلى أن تنتهي رحلة الأحلام بفعل القهر والبطش ومن ثم تعود إلى الوطن في عربة الأموات، بعد أن تبدّد الأمان فارّة من واقع قاهر وباطش في آن واحد، صار فيه كلّ شيء قابلا للتسليع، والمقايضة، وفق منظومة اجتماعيّة جديدة جعلت من أنا صاحب الأرض سيّدا والآخر عبدا.
العجيب أن حالة الإحباط وفقدان الأمل عامة وليست مقتصرة على الأصدقاء، فالدكتور معاوية إبراهيم طبيب القصر فقد حلمه مع السنوات الطوال وانتظاره في مكانه، بأن ينتهي من الدكتوراه والتخصص في علم الأمراض بالمملكة المتحدة، فظل يعاقر الخمر ليلا وفي بعض النهارات أحيانا. وكأنّ المؤلف يريد أن يقول “ما دامت الأوضاع السياسية التي هربت منها الشخصيات على ما هي عليه، فلا بارقة أمل تطلُّ في الأفق، ومع أن هذه نزعة تشاؤمية عدمية إلا أنها مع الأسف تظل الحقيقة المطلقة وما عداها هو الخيال”، وفقا لصحيفة «العرب».
ويقدم الصويم في تجربته الجديدة نماذج بشرية من لحم ودم، وكأنه يسعى إلى تحطيم مفهوم رولان بارث عن الشخصية التي يصفها بأنها “كائن من ورق”. فشخصيات الصويم الهاربة من الفقر في بلادها، باحثة عن ملاذ يكون بمثابة عتبة تنطلق منها لتحقيق أهدافها الكبرى التي أحبطتها ظروف الأوطان الفقيرة، كما هو حال الدكتور مكي الفكِّي الذي يسعى إلى الحصول على الدكتوراه من بريطانيا، فيتخذ من إقامته في السعودية التي يحددها بثلاثة أعوام تقل إلى عامين، كي يجمع المال للهجرة، وبالمثل سعت الممرضة الفلبينية آن التي ارتبطت بعلاقة حب مع الدكتور مكي إلى جمع المال، للتحرّر من الفقر في مانيلا ثم تخطو خطواتها لاستكمال تعليمها في أوروبا، لكن أتت رياح التشدد بما لا تشتهي أحلام الرومانسيين والحالمين.
تبدو الرواية رواية شخصيات، حيث تتنوع ما بين إشكالية وقد مثلتها الشخصيات السودانية من أمثال الصادق سليمان، وفضل الله، والدكتور مكي الفكي وأيمن فخري والمتوكل عبدالرحمن، الفتى السّوداني ذو الخامسة عشرة وبالمثل سميّة تاج السّر.
وتظهر إشكالية الشخصيات بعد أن تعرضت للقهر الذي وصل إلى حد الإذلال كما في حالة الصادق سليمان، من قبل الشيخ أبوطلال الذي حبسه في غرفة السّجن المظلمة، بعد إيثار الراقصة المغربية له دون غيره في ليلة الحفلة.
وبالمثل الدكتور مكي الذي حاصره حارس المستشفى، إلا أنه لم يلن أو يخضع لجبروته، وهو ما دفعه إلى إثبات الجرم بعدما رفضت آن الانصياع لابتزازه كما طلب منها الدكتور مكي. وهو ما أنهى أحلامهما، فتمّ ترحيل آن سريعا ومنعت من دخول البلاد مرة ثانية، أما الدكتور مكي فعاد مستترا بحافلة نقل الأموات في رحلة مجهولة عبر الحدود اليمنيّة.
كما أن فضل الله قاوم رغبة الشيخ سعود الجديع الذي اتّهمه بالكفر وتعليق الأصنام، واعترض طريقه عندما همّ بكسر التمثال كما زعم، حتى انتحار المتوكل الذي جاء من السودان على مهنة سائس خيول، لكن الحقيقة أنه جيء به لأغراض إشباع اللذات الشاذة للسيد الكبير صاحب القصر وأصدقائه، حيث يستمتعون بالممارسة الشاذة التي تقام لها الحفلات داخل القصر ويجمع لها الغلمان والصقور.
انتحار الفتى، الذي استنجد بالصادق سليمان كبير الموظفين في القصر وخذله، يأتي بمثابة تمرد على هذه الأوضاع الشاذة والتي أُرغم على القيام بها، فعجزه لم يمنعه من القول لا أو الاعتراض، لكن امتلاكه لقرار الانتحار اتّخذه دون أدنى تراجع. حالة التمرد التي ظهرت عليها الشخصيات وجميعها ينتمي إلى بيئة السودان، توحي بانحياز المؤلف لها.
نجح الصويم، في الحقيقة، في هتك غلالة التوت التي تغلّف الشعارات كافة، وفي أحد جوانب الرواية يكشف عن الصراعات المستترة بين المغتربين للنيل من رضا صاحب العمل، كما في صورة اليمني عزيز العلواني وعلاقته بـ أبوعبدالله مدير الموقع، وبالمثل مع المصري الجديد خالد عطية الذي يوكل له الموقع، وأبوالبراء السوداني الذي نهج طريقا مغايرا عنه ليحظى بالرضا.
ويعمد السارد، الغائب المتحكم في بنية السرد الذي يميل إلى الغنائية، إلى تقديم حكايته وفق بنية سردية تعمد إلى الإثارة والترقُّب، فثمّة خيط أقرب إلى بنية المفاجآت يتخلّل العمل، حيث الأحداث دائما فيها صدامات ونهايات غير متوقعة، فالحفلة تبدأ بهروب النيجيريين اللذين كانا سيصيران غلماني القصر، وأيضا تنتهي الحفلة بانتحار الفتى المتوكّل، وهو ما سبّب صدمة للجميع، وبمفاجأة غير سارة للصادق الذي تمّ تصويره أثناء لقائه بالراقصة المغربية، كما أن عربة الأموات يكتشف فيها فضل الله جثة الإثيوبية المصابة بالغيبوبة، لكن التحوّل الخطير هو عودة الجميع في عربة نقل الأموات.