احتفى بيت تايكي في جبل عمان مؤخرا بالمجموعة الشعرية الجديدة للشاعر أحمد كناني وعنوانها "ذاهب في خسارته".
كان الشعر هو عنوان الاحتفاء، كما تجلى في قراءة الشاعر الدكتور حكمت النوايسة للمجموعة، وجال فيها على تجربة الكناني الذي لفت الى أنه واحد من شعراء جيل التسعينيات.
لم يغب عن النوايسة، أن يؤكد أن غياب الكناني عن الظهور في الإعلام المحلي، لم يغيبه عن أن يكون واحدا من أصحاب الأصوات الشعرية الخاصة والمميزة و"مقل في الكتابة والنشر، لكنّه يمتلك أدواته الشعرية الجميلة".
كانت قصيدة "بوح دافئ"، مفتتح الجولة النقدية لقراءة "ذاهب في خساراته" وفيها يقف على "حرد الشاعر من كلّ شيء، والبحث عن الشاعر في الشاعر، والشاعر هنا ذلك الطفل الذي لم تهجّنه (المدنية)".
ويمنح النوايسة كشوفاته بعدا آخر، يتصادى مع رؤية الشاعر العميقة في استكناه المعنى وتجريده من خصائصه القاموسية، ليصبح معنى فائضا بخصائص رؤية الشاعر، ففي قصيدة القطيع تتحول "دقائق التفاصيل إلى رافعات للرؤية التي يمتلكها الشاعر"، وفيها:
"ما جفّ ضرعكِ يا نعاجُ/ وإنما أضحى الحليبُ مجفّفاً ومعلّبا
راعي القطيع أضاع كلَّ لحونهِ/ ما عدتُ أعشق لحنه إن شبّبا
ما عادَ ذئبُ الليلِ حول سياجنا/ يعوي ولا هرّت كلابي ثعلبا
ما عاد يطربني القطيعُ ثغاؤُهُ/ فاللحنُ إن يمّمتُ شرقاً غرّبا"
وفي هذا المقطع "طاقة إيقاع حزين، يتضافر مع السخرية المرّة المتفشية في الدلالة"، ونبقى في هذا المناخ عندما نصل إلى قصيدة الأسئلة التي "تشبه الدعاء والرجاء، لأنها أسئلة من يدرك أن الإجابة عنها ليست بيد أحد":
"صغار البراءة نحن/ فلا تتركينا/ إلى الموت نسعى/ بدعوى النضوج/ ويا أمّنا الأرض/ ماذا سيبقى/ غداة تقود الغريزة/ حشد الطيور إلى موعدٍ/ في البعيد؟".
لا يني الكناني في هذه المجموعة التي تمهل في إصدارها لسنوات، حتى اكتمل قمر لهفته في رؤيتها بين دفتي كتاب، "يسرّب إلى النص مفردات شعبية تتماسّ مع غاياته دون أن تكون نشازا": "إنّها الأسئلة/ عن تخوم النهاية أين تكون/ وعن خوفنا/ حين نشرَقُ بالضحكاتِ القليلةِ/ حين يدينا/ تمدّ أكفّ الضراعة نحو السماء/ وتسبقها البسملة".
أما قصيدة "رعدة الراعدة"، فيستهلها "برصد الأصوات التي يتشكّل منها الفضاء المرجعي عنده"، متنقلا "بين الجد والأم والطفل/ المتمرد حتى يصل إلى منطقة الفن، التي هي منطقة الطفل بعد تمرّده": "خرجت من الجاز إني خجلت/ قصدت النشاز فخفت الخليلا/ تلطف بنا يا مجاز وعرِجّ/ إلى واحة النخل أعني النخيلا".
تشكل قراءة النوايسة إبحارا في عوالم الكناني التي لم يسبق لها أن أضيئت بهذا العمق، فالناقد/ الشاعر هنا، يلاحق كل نأمة في المجموعة، متوقفا عندها، ففي قصيدة "طقوس الصّهيل"، "نرى إلى تلك المقطعات المبنية بمهارة وإتقان حتى نصل إلى القفلة المبنية على نوع من المفارقة الساخرة الهادئة": "حزينٌ لأنّ العذارى كسرن/ زجاج نوافذ حلمي الصغير/ وبعثرْنَ قلبي بكل الدروبْ".
يتحدث النوايسة عن المرأة في هذه المجموعة قائلا "المرأة في قصائد أحمد، نبيلة، راقية، عالية، خصبة، مطلوبة دعاء، ومطلوبة إلهاما، ومطلوبة أمّا، ومطلوبة مصدرا لكل جمال وخصب"، ويمثل في هذا المنحى بقصيدة "غيم مناديلها": "يليقُ بها/ أن تقودَ وعولَ الكلام/ إلى نبعها المستحيلِ.. وأنْ ترتوي الكائناتُ الخجولة/ من ريقها/ ثمّ تلقي عليها/ الطيورُ/ السلامْ/ يليق بها/ أن تعاندَ إيقاعَ هذي الفصولِ/ وترجمَ
بردَ الشتاء بدفء يديها وأنْ/ توقظ الحَبَّ من نومه المطمئنّ على شرفتي/ في انتظار الحمامْ".
وهذا وفق النوايسة، نجده في قصيدة "لحن قديم" التموزيّة الواضحة، كما نجد فيها تلك المكانة العالية للمرأة، الرائية، القادرة على تشكيل إيقاع الحياة.
أما "مقطّعات القصائد عند أحمد فتميل إلى التكثيف، وتعتمد المفارقة كما أسلفت، لكنّها تبقى هادئة، بمعنى أنّ كثيرا مما فيها من سخرية يمرّ كالنكتة، وما فيها من مكابدة يمرّ كالدعابة": "الجريئة ظلّت تقود دمي نحوها/ غير أنّ الغبيّ فمي/ كلما انفرجت بسمة زمّها".
إذن تقودنا استنتاجات النوايسة الى أن "القصيدة عند أحمد حدث عابر والشعر عنده حدث مقيم، وهذا يتأتّى من الرؤية الشعرية الرومانسية للكون، فأحمد ليس من صنّاع القصائد المحكّكين، ولديه أدوات ذلك اللغوية والمرجعية، لكنّه هكذا، إن جاءت القصيدة جاءت، وإن لم تجئ فلها ذلك".