روسيا تحت حكم بوتين هشة أكثر مما تبدو

تاريخ النشر: 04 نوفمبر 2012 - 06:55 GMT
ارشيف
ارشيف

عندما احتفل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعيد ميلاده الستين الشهر الحالي وضع مجموعة من متسلقي الجبال صورة للزعيم الروسي على قمة جبل ارتفاعه 4150 مترا واصفين إياه بأنه كفيل بتحقيق السعادة وإرساء الاستقرار وأضافوا "وضعنا صورة بوتين على صخرة نعتبرها غير قابلة للكسر وأبدية مثل بوتين".

ولكن مع قرب انتهاء 13 عاما له في حكم روسيا الشاسعة يشعر الروس بالتعاسة بشكل كبير ويتزايد القلق إزاء الاستقرار السياسي والاقتصادي طويل الأمد.

ويقول مصرفي كبير في موسكو إن روسيا تصدر ثلاثة أشياء بكميات كبيرة: الموارد الطبيعية ورأس المال والناس.

وبالنسبة للأمر الأول فيمكن أن يعتبر صحيا ومستداما في حين أن الأمرين الآخرين يلمحان إلى أن الأثرياء الذين يمثلون أقلية في البلاد والمواطنين العاديين على حد سواء يديرون ظهرهم لروسيا في ظل حكم بوتين.

ووفقا لاستطلاع للرأي نشرت نتائجه في سبتمبر أيلول فان نحو ثلث سكان المدن يودون الهجرة من روسيا. وبين الشبان ارتفعت النسبة إلى نحو النصف. وأكثر الأماكن التي يودون الهجرة إليها أوروبا والولايات المتحدة واستراليا ونيوزيلندا.

والسبب وراء هجرة المواهب والمال هو تزايد الشعور بين الروس المثقفين بأن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطيء ومن غير المرجح أن يحدث أي تغيير.

وبدأ الأمر كله بشكل مختلف فقد حل بوتين محل بوريس يلتسن رئيسا لروسيا في 31 كانون الأول /ديسمبر عام 1999 . وانتعش الأمل خلال سنوات حكمه الأولى إذ حل النظام محل الفوضى أثناء حكم يلتسن ونما الاقتصاد بشكل كبير وارتفع اجمالي الناتج المحلي الروسي نحو عشرة أمثاله أثناء حكم بوتين وأفرزت طفرة استهلاكية طبقة وسطى جديدة.

وعزز ظهور مجموعة من الوزراء الاصلاحيين على رأسهم وزير المالية اليكسي كودرين ووزير الاقتصاد جرمان جريف الآمال بحدوث تغيير حقيقي لزيادة الاستثمارات الخاصة وتحديث الصناعة والبنية الأساسية وخفض الاعتماد على صادرات المواد الخام.

وفي آذار /مارس عام 2012 بدأ بوتين فترة ولاية رئاسية جديدة مدتها ستة أعوام ودعاه أنصاره للاستمرار في السلطة حتى عام 2024 ليصبح حينذاك أطول زعيم للكرملين بقاء في السلطة منذ ستالين.

وظاهريا فان جدول أعمال بوتين الاصلاحي مستمر. والرئيس وحكومته مستمران في الحديث عن التطوير وهو مفهوم كان محببا للقياصرة الروس لقرون.

وقال بوتين في منتدى اقتصادي رئيسي في روسيا خلال الصيف الحالي إن حكومته ستنفذ برنامجا رئيسيا للتحول من أجل بناء اقتصاد جديد وتوفير أو تحديث 25 مليون فرصة عمل مضيفا أن روسيا ستصدر السلع والخدمات المبتكرة.

إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى اتجاه مختلف..

بعد فترة قصيرة تولى فيها ديمتري ميدفيديف الرئاسة من عام 2008 حتى عام 2012 والتي ظل بوتين يتمتع فيها بالسلطة بصفته رئيسا للوزراء بدأت الأوضاع تتغير.

وجرى اعتقال الزعماء المعارضين بتهم تقول منظمات لحماية حقوق الانسان إنها ملفقة وفرضت قيود جديدة على الانترنت وتم الرجوع عن قرار ميدفيدف بإلغاء قوانين السب والقذف.

ولم يعد غريف وكودرين في الحكومة وهناك شائعات في موسكو بأن بوتين سيقيل ميدفيديف ذاته قبل نهاية العام.

والنمو يمضي قدما إلا أنه في نفس الوقت يوجد في موسكو أكبر عدد من المليارديرات في العالم ويتفشى الفساد وثروة البلاد الكبيرة غير موزعة بشكل عادل.

وساعد كودرين في تمويل دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية نشرت الأسبوع الماضي وتوصلت من خلال المقابلات التي أجرتها في موسكو ومدن أخرى إلى أن الروس لا يرون أن هناك فرصة تذكر لتغيير النخبة الحاكمة عن طريق صناديق الاقتراع.

وكثيرون يعتقدون أن من الممكن اندلاع ثورة بل يرونها أمرا مرغوبا فيه.

وتراجعت مصداقية ميدفيديف وسط الناخبين بعد أن ابتعد عن السلطة دون تذمر ليفسح الطريق أمام عودة بوتين إلى الكرملين العام الحالي. ويشعر أنصاره باليأس من وجود أي فرصة لتغيير حقيقي في الاقتصاد الذي يسيطر عليه الكرملين بشكل كبير.

وتوضح هذا الاتجاه صفقة عملاقة في الآونة الأخيرة. وقالت شركة روزنفت النفطية الروسية التي تسيطر عليها الدولة الشهر الماضي إنها ستستحوذ على ثالث أكبر شركة منتجة للنفط وهي (تي.إن.كيه-بي بي). وستشتري روزنفت حصة الملاك الحاليين وهم أربعة أثرياء سوفييت وشركة (بي بي) البريطانية لاقامة أكبر شركة نفط مدرجة في العالم.

في الوقت الذي يتراجع فيه انتاج النفط في روسيا وهناك حاجة بشكل كبير إلى استثمارات ضخمة لفتح مجالات جديدة فان الكرملين ينفق 55 مليار دولار نقدا وفي شكل أسهم للسيطرة على شركة نفطية كبيرة من القطاع الخاص.

وفي الوقت الذي تتباهى فيه الحكومة يحول أثرياء روسيا مزيدا من الأموال إلى الخارج بسبب ضعف الاستثمارات. ويقدر أندريه كليباش نائب وزير الاقتصاد خروج ما بين 50 و60 مليار دولار من رأس المال الخاص من روسيا هذا العام. ويتكهن بنك أورالسيب في موسكو أن الرقم قد يتجاوز 80 مليار دولار.

وفي الاسبوع الماضي ابلغ بوتين مجموعة من الاكاديميين والصحفيين على مأدبة عشاء في منزله ان "مشاعره متضاربة" ازاء استحواذ روسنفت على تي.ان.كيه-بي.بي لانه ذلك من شانه تعزيز دور الدولة الاقتصادي.

غير ان مراقبي الشؤون الروسية لا يراودهم ادنى شك في ان الصفقة صيغت داخل الكرملين. ويدير روزنفت ايغور سيتشين الحليف القديم المقرب من بوتين وهو من الصقور في الكرملين إذ ابدى دائما تحبيذا لتوسيع نطاق سيطرة الدولة على اصول مهمة.

ووصف اللقاء الذي استمر ساعتين مع خبراء روس بمنزله خارج موسكو بانه فرصة للتعرف على احدث اساليب التفكير داخل الكرملين وافكار بوتين خلال ولايته الجديدة. ولكن خلال العشاء فاجأ الرئيس بعض الحاضرين باداء باهت خال من اي مزحات كما عرف عن بوتين وغياب لأي أفكار جديدة.

والفساد من أكبر المشاكل في روسيا بالنسبة للمواطن العادي ورجال الاعمال والمستثمرين الاجانب. وانزلقت البلاد إلى المرتبة 143 من بين 182 دولة على مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية الدولية وهو نفس ترتيب نيجيريا.

وتجاهل سؤال عن الفساد بتنهيدة تنم عن سأم وسأل الحاضرين ما الجديد الذي يتوقعون ان يقوله بشان هذا القضية الازلية.

كما ترددت اقاويل عن صحته. وفي الاسبوع الماضي نفى المتحدث الصحفي باسم الرئيس تقريرا لرويترز أشار لحاجة بوتين لعلاج إصابة في الظهر وبعد ايام نفى من جديد شائعات عن صحة بوتين وقال انه يعمل في المنزل لتجنب ازدحام المرور.

ومثل هذ الامور ليست بالشيء الهين في بلد تتركز فيه سلطات هائلة في يد رجل واحد في ظل غياب لخليفة معروف.

وقبل أول اجتماع مع بوتين في عام 2009 وصف الرئيس الاميركي باراك اوباما نظيره السوفيتي بانه زعيم يغرس احدى قدميه في الماضي السوفيتي لروسيا فيما ترى في موسكو دلائل على الرجوع للماضي.

 ويدير شؤون الكرملين في الوقت الراهن سيرغي ايفانوف ضابط المخابرات السابق ويبلغ من العمر 59 عاما ويحب ان يصف نفسه بانه "محافظ بشأن الامن القومي ولكنه ليبرالي إلى حد بعيد فيما يتعلق بالاقتصاد". وفي السابق شغل ايفانوف منصب وزير الدفاع ورأس مجمعا صناعيا عسكريا.

واضحت كلمة "زاستوي" او الجمود بالروسية تتردد على ألسنة كثيرين من سكان موسكو في الوقت الراهن وهو مصطلح استخدم لتوصيف السنوات الأخيرة العجاف من حكم الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف في السبعينات وأوائل الثمانينات ولكنه يستخدم بشكل متزايد مع بوتين حاليا.

ورغم وعود الحكومة على مدار سنوات لم تضع روسيا بعد نظاما حديثا لمدخرات معاشات التقاعد ولم تطور اللوائح لاقامة مركز مالي ينافس دبي او تستثمر في البنية التحتية المتهالكة.

وتأثرت الميزانية الحكومية الروسية بالفعل بتكلفة زيادة كبيرة لاجور العاملين في القطاع العام قبل الانتخابات وتتوقع احدث ميزانية أعلنتها الحكومة الروسية إنفاق 620 مليار دولار على إعادة تسليح الجيش حتى عام 2020 في حين تخفض الإنفاق على البنية التحتية والتعليم.

وأزعجت هذه الأولويات كبار رجال الأعمال الذين يطالبون بالحاح بتحسين شبكة الطرق المتداعية.

وفي حين تعهد بوتين مرارا بتقليص اعتماد الاقتصاد على صادرات النفط والغاز ارتفع سعر النفط اللازم لتوفير متطلبات موازنة الحكومة اكثر من المثلين في غضون خمسة اعوام إلى 110 دولارات للبرميل.

وعلى صعيد السياسة الخارجية تعثرت خطة ميدفيديف الرامية لاعادة العلاقات مع الولايات المتحدة لمسار بناء أكثر. بل تحدت موسكو الغرب بشأن سوريا ومنحت الاولوية لاقامة مناطق تجارة حرة مع روسيا البيضاء وقازاخستان.

ويقول اليكسي بوشكوف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الدوما (مجلس النواب) ان "روسيا تريد ان تكون "مركزا مستقلا لاجتذاب الدول المجاورة" ويضيف "ارتكب الغرب خطأ فادحا برغبته ان تتشبه روسيا بالغرب -روسيا تريد ان تكون روسيا."

ومن بين أوضح المؤشرات على الاختلاف بين روسيا والغرب طريقة التعامل مع فرقة بوسي رايوت الغنائية النسائية التي نظمت أغنية احتجاجية في الكاتدرائية الرئيسية بموسكو هذا العام ناشدت فيها السيدة مريم العذراء تخليص روسيا من بوتين.

وحكم على ثلاث عضوات بالفريق بالسجن لمدة عامين - وأطلق سراح إحداهن في وقت لاحق بعد وقف تنفيذ حكم السجن الصادر بحقها - لإدانتهن بتهمة "الشغب الذي تحركه كراهية دينية".

وقال بوتين إن هؤلاء النساء "أخذن ما يستحقنه" بسبب عرضهن الذي ارتقي إلى مستوى الأعمال المبتذلة للجنس الجماعي وهدد الأسس الأخلاقية لروسيا. وثار غضب حكومات غربية وجماعات حقوقية إزاء ما اعتبرتها عقوبة غير مناسبة على الإطلاق.

ورغم ذلك ربما تشير الطريقة الصارمة التي عوملت بها فرقة بوسي رايوت إلى شيء أكبر من مجرد السخط الأخلاقي.

فالكثير من المحللين يعتبرون فترات عقوبات السجن الصادرة بحق عضوات الفريق دلالة على شيء أكبر وهو تخوف الكرملين في ظل سخط شعبي متزايد.

وبينما تضاءلت الاحتجاجات التي اجتاحت شوارع موسكو في الشتاء الماضي يقول محللون سياسيون إن سكان الحضر المثقفين يشعرون باستياء متزايد تجاه قيادة بوتين.

 وبعيدا عن فخامة مقر إقامة بوتين في نوفو أوجاريوفو وبواباته المصنوعة من الحديد المشغول التي يعتليها نسر روسي ذو رأسين تقع على شمال موسكو بلدة كراسنوغورسك التي يغلب عليها طابع الرتابة ويسافر معظم سكانها للعمل في مناطق أخرى.

وداخل أحد مطاعم ماكدونالدز الصغيرة هناك توجد امرأة دقيقة البنية (30 عاما) استعرضت بحماس توقعاتها لمستقبل روسيا في عهد بوتين بينما كانت عاصفة ثلجية تهب في الخارج.

قالت يكاتيرينا ساموتسيفيتش عضوة فريق بوسي رايوت التي أطلق سراحها "النظام نفسه ينهار... إنه يزيد من ممارساته القمعية... وأولئك الذين يتولون السلطة لديهم مخاوف جمة وسلوكهم يزداد وحشية. يمكن أن ينتهي بنا المطاف إلى انهيار تام مثل الاتحاد السوفيتي."

والسؤال هو.. هل ستتحقق رؤية القوة الكبرى المستقرة القوية التي يتوقعها بوتين أم سيتحقق السيناريو المروع الذي تنبأت به عضوة فريق بوسي رايوت؟

لكن في الوقت الحالي يميل الشعب الروسي ونخبته من رجال الأعمال إلى الهجرة في الوقت الذي لا يسير فيه بوتين على خطى النصر.